في فيلمها الجديد Romería، ترتحل المخرجة الإسبانية كارلا سيمون، لا لأرض مقدسة بحثًا عن الغفران والسكينة، ولكن تذهب بعيدًا لمكان تسكنه ذكريات موحشة ومقلقة أملاً في الإجابة على أسئلة لطالما مزقت طفولتها ولا تزال تؤرق مراهقتها تتعلق بوالديها البيولوجيين اللذان توفيا في ريعان شبابهما تاركين ورائهما إرثًا من الغموض.

لطالما كانت العائلة هاجسًا يتجلى صداه في أعمال سيمون، ففي فيلمها الشهير Summer 1993، تترك فريدا جدّيها، بعد وفاة والديها، وتنتقل إلى كاتالونيا لتعيش مع أقاربها. لكنها سرعان ما تجد صعوبة في التأقلم مع عادات القرية وسط شائعات صحية تتردد حول سبب وفاة الأم.

في شريطها الأحدث، تعالج المخرجة الإسبانية مرة أخرى حزنها وتشتت انتباهها المستمر في أعقاب وفاة والديها بسبب الإيدز في أوائل التسعينيات. الفيلم الجديد ليس تكملة مباشرة لفيلم Summer 1993، ولكنه يمتد برشاقة من تصوير سابقه لصدمة الطفولة المبكرة إلى حافة الهاوية في مرحلة البلوغ. تسير الرحلة هذه المرة بشكل عكسي، حيث تنتقل مارينا، فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، إلى فيغو في غاليسيا على ساحل إسبانيا الأطلسيّ، لمعرفة المزيد عن والدها البيولوجي “فون” الذي توفي هناك بسبب الإيدز بعد انفصاله عن والدتها، التي توفيت هي الأخرى، وعن عائلة والدها الثرية الذين لم يعترفوا بها أو يتواصلوا معها أبدًا في السنوات التي تلت وفاة والدها، تاركين عبء تريبتها إلى والدين بالتبني. لكنها، ومع لهفتها للقاء أهل أبيها، تصطدم بسؤال قاسِ: هل مشاركة نفس الدم تجعلك فردًا من العائلة؟

يشير مصطلح Romería في اللغة الإسبانية إلى “الحج”، وهو عنوان صريح ومناسب لفيلم سيمون الطويل الثالث، وهو شكل من أشكال أفلام الطريق ولكن عبر البحر، تخوض خلاله مارينا رحلتها سعيًا وراء شعور بالاكتمال الذاتي والاعتراف بالهوية. ومع ذلك، بينما يشق الفيلم طريقه عبر الشوارع الضيقة والموانئ والمياه المتلألئة، منغمسًا في تجمعات عائلية من المفترض أن تكون حميمية لكنها تتخذ منحى فوضوي، فإن الجانب الروحي للعنوان يتخذ مفارقة حزينة. لا توجد هنا وجهة مقدسة أو وحي، ولا يوجد شعور دافئ بالعودة إلى الوطن (العائلة)؛ إنه مكانٍ -كما يقول أحد أعمام مارينا- مسكون بالذكريات، ذكريات طفولتها المجزأة والمشوهة والتي تسعى للعثور على بقاياها المفقودة في مكان لا تنتمي إليه.

تعتمد سيمون في سيناريو فيلمها على ما يُعرف بـ “دراما طبقات البصلة”، أي أنها تنزع الغموض الذي يغلف حياة هذه العائلة قشرة تلو الأخرى، تمامًا مثلما يصفها أحد أفرادها بأنهم لا يتحدثون بخصوص أي شيء يخص العائلة، رغم ثرثرتهم المتواصلة التي لا تكاد تتوقف. ففي الوقت الذي يبدي فيه أهل أبيها حماسًا وترحاب بزيارة هذه الصغيرة بطرق مختلفة، إلا أن جميعهم يمتلكون رد الفعل المثير للاستغراب ذاته، بخصوص تشابهها حد التطابق مع أمها، وكأن زوجة فون عادت لتوها من القبر لتثير نفس القلق والتضارب القديم ذاته حول وضعها داخل هذه العائلة. همسات جانبية خافتة تتحول لصمت كلما مرت مارينا، يتسأل أبناء عمومتها الصغار عما إذا كانت مريضة، حيث قيل لهم ألا يلمسوا دمها أبدًا: لا يزال المرض الذي قتل والديها مصدرًا للعار الموصوم في الأسرة، ووجودها هو تذكير مزعج به.

هذه التفصيلة تتناص بشكل صريح مع فيلمها الأول Summer 1993، فعندما تسقط فريدا وتجرح ركبتها أثناء اللعب في الحديقة، يصاب الآباء بالذعر ويخبروا أطفالهم ألا يقتربوا من دمها. ثم أصبحت فريدا مختلة بشكل متزايد بمرور الوقت: أنانية، غاضبة، ذات سلوكيات غريبة. إنها تغار ببرود من وجود أم وأب لآنا -ابنة عمومتها، فتصبح شخصية مزعجة بل وخبيثة بشكل متزايد. إن روابط الدم دائمًا ما تؤرق سيمون وتصبح محط لتساؤلات نفسية وبيولوجية عديدة.

سرعان ما تكتشف مارينا تناقضات حول ما اعتادت سماعه عن حياة والدها هناك مع والدتها، وما يخبرها به هؤلاء الأشخاص الآن، من تضارب تاريخ وفاته إلى توقيت ومكان انفصاله عن أمها، وكأنها كانت تعيش أكذوبة كبرى. هذه الكذبة تتدحرج مثل كرة ثلج قاسية وثقيلة منذ أن تعرف مارينا أنها مفقودة من شهادة وفاة أبيها وعدم عثورها على أوراق رسمية تُثبت أبوة فون لها أثناء طلب حصولها على منحة لدراسة السينما. لذا، فإن جزءًا من هذه الرحلة يتلخص في إقناع جدّيها المشاكسين وصعبي المراس بأداء شهادتهما الرسمية، لكنها تصطدم بحقيقة أن العائلة ما زالت لا تعترف بها كواحدة منهم. وهذا يتلخص في مشهد قاسِ يقدم خلاله الجد مبلغًا لتأمين مصروفات دراستها السينمائية، لكنه في الواقع رشوة دنيئة لإقناعها بالرحيل.

هذا التنصل والتجاهل سرعان ما تكشف سيمون عن جذوره في تسلسل سيريالي تستحضر من خلاله مارينا شباب والديها الجامح، وكيف استطاعت عائلة فون أن تنسج رواية كاذبة حول تورط والدتها في وفاة ابنهما بالإيدز بسبب تعاطي المخدرات، فتتراكم مشاعر الكره والاقصاء وترثها هذه المراهقة بالتبعية. ولكن، تعتزم مارينا التخلي عن صمتها المهذب ومحاسبة هذا الكيان العائلي الصارم عما ارتكبه من قسوة بحق والدها واستعادة هويتها.

رغم حساسية الفيلم الشديدة والتي كانت لتجعله متماسكًا على مستوى السرد لولا الانحراف الطفيف نحو الواقعية السحرية الحالمة في النصف الثاني. فعلى الرغم من أن تسلسل مشاهد استعادة والديها مبنية على هدف وهو أنها تعمل بمثابة جسر بين استحضار مارينا لشباب والديها، الذي صورته بنفسها، ومشاهد استرجاع مباشرة، لأيام التسكع وتعاطي المخدرات وممارسة الحب، والتي من خلالها نصبح مطلعين على ومضات حسية خارج نطاق رؤية بطلتنا، إلا إنها افقدت القصة انسيابية الكشف المثيرة التي انطلق بها الفيلم منذ البداية؛ فكل ما جاء بهذا التسلسل المربك من معلومات سبق وأن استقبلناها خلال النصف الأول سواء بالتعليق الصوتي لمارينا من مذكرات والدتها أو من خلال حوارتها مع أسرة أبيها. لكنه يبقى قصيدة ذاتية حزينة وعذبة عن معنى العائلة، وإقرار بأن ليس كل الذكريات يمكن تناقلها بين الأجيال، بعضها يجب أن يترك ليموت بسلام.

مشاركة: