“وما الدنيا إلا مسرح كبير“
العبارة الشهيرة السابقة ليست مجرد جملة في مونولوج لشخصية جاك بمسرحية «كما تشاء» لوليام شكسبير، بل أصبحت تفسيرًا شائعًا لكثير من الأشياء التي نقابلها في الحياة. نرددها بسخرية لنؤكد أن المسرح ليس سوى لعبة، والحياة لا تختلف عنه، فهي أيضًا لعبة، لكن على نطاق أوسع من خشبة المسرح. لذا، فالعبارة ليست مجرد مدخل لهذا المقال، بل هي أيضًا مفتاح لفهم الأسلوب الذي اتبعه عبد الرحيم كمال في كتابة مسلسل «قهوة المحطة»، أحد المسلسلات المهمة والممتعة في النصف الثاني من رمضان. وأؤكد على كلمة “الأسلوب” وليس “القصة”، فكل قصة تشاهدها في عمل فني ستذكّرك بعمل آخر أو حتى بقصة واقعية حدثت أمامك، لكن ما يجعلنا نميز عملًا فنيًا عن آخر هو الأسلوب. فالأهم دائمًا من “ماذا حدث؟” هو إجابة سؤال “كيف حدث؟
منذ الحلقة الأولى، نجد أنفسنا أمام لغز: من الذي قتل مؤمن الصاوي (أحمد غزي)؟ الشاب الذي جاء من الصعيد ليحقق حلمه في أن يصبح ممثلًا شهيرًا، وهو بالمناسبة نفس حلم أحمد غزي نفسه، وحلم كثير من الشباب. ولكن لماذا وقع الاختيار على أحمد غزي تحديدًا لتجسيد شخصية مؤمن الصاوي؟ غزي في ذاكرة الجمهور المصري هو “ششتاوي” في فيلم «الحريفة»، مما يجعلنا نتساءل: هل يمكن أن يكون هو بطل العمل؟ أم أن هذه خطوة مبكرة بعد «الحريفة» بجزئيه العام الماضي لتقديم بطولة عمل درامي هذا العام؟
من هو أحمد غزي؟
شاب سافر لدراسة ريادة الأعمال في بريطانيا، لكن حلم طفولته بالتمثيل لم يفارقه. لذا، قرر أن يبدأ مشواره الفني بجانب دراسته، ولكنه بدأ الطريق عبر التعلم المستمر لصقل موهبته التي نتابعها عبر الشاشة. خلال رحلته، التقى بمديرة أعماله الحالية، التي لعبت دورًا محوريًا في فتح الأبواب أمامه. فالفرص في هذا المجال نادرة، لكن غزي، بذكائه، عرف أهمية الإدارة الجيدة، ليصل سريعًا إلى العالمية عبر فيلم Walkout عام 2020.
في 2021، شارك في مسلسل 60 دقيقة، حيث أدى مشاهد الفلاش باك لشخصية الطبيب السيكوباتي المتحرش، مقدّمًا أداءً معتمدًا على النظرات أكثر من الحوار. ثم توالت مشاركاته في أعمال أخرى مثل «الاختيار»، و«بين السما والأرض».
لكنه عاد إلى العالمية مرة أخرى، حين وقع عليه الاختيار لتقديم شخصية الملياردير السعودي عدنان خاشقجي في مرحلة شبابه في الموسم الخامس من The Crown، كما شارك في مسلسل «المشوار» مع محمد رمضان. ولم يكتفِ بذلك، بل ظهر في 2023 بمسلسلين: «الإمام الشافعي» في دور أبو عثمان، و«ضرب نار» أمام ياسمين عبد العزيز في دور أخيها المدمن على المخدرات. وفي 2024، ظهر في «الحشاشين» بدور سعد، الذي باع روحه حالِمًا بالجنة في مشهد بديع.
كل هذه الأعمال تشكل خلفية غزي وخبرته حتى الآن، والرابط بينها أنها أعمال ذات ثقل وإقبال جماهيري، حتى وإن اختلف البعض على جودتها الفنية. لكن بالطبع، تأثير شخصية “ششتاوي” في «الحريفة» كان الأبرز. ومع ذلك، ليست خبرة غزي وموهبته وحدهما ما جعله مثاليًا لدور مؤمن الصاوي، بل أيضًا ملامحه التي تناسب شخصية الشاب الصعيدي البريء الساذج، ببشرته القمحية التي احترقتها شمس الصعيد.
مسرحة الدراما التلفزيونية
ليس من قبيل الصدفة أن تشترك كلمة مسرح في عبارة مسرح الجريمة وعبارة مسرح الأحداث. على خطى المسرح، يسير الكاتب عبد الرحيم كمال والمخرج إسلام خيري، حيث تجد كلًّا منهما يجند أدواته لخدمة العرض المسرحي. لا، لم أخطئ، فمسلسل «قهوة المحطة» إذا تم التعامل معه كعرض مسرحي، سيتضح سبب استخدام المخرج للكادرات القريبة جدًا من وجوه الممثلين، والتحولات المرعبة في تعابيرهم لإثارة الشك والريبة في جميع الشخصيات، حتى لا نعرف من القاتل بسهولة. الطريقة التي يتحرك بها الممثلون داخل المشهد تشبه أداءهم على خشبة المسرح، وحتى طريقة تصوير التحقيقات في غرفة الضابط (أحمد خالد صالح) ليست الطريقة المعتادة في الأفلام والمسلسلات. لن تجد زاوية تصوير جانبية تجمع الضابط والمشتبه به إلا نادرًا، بل تعتمد الكاميرا على كادر متوسط يتنقل بين الضابط والمشتبه به، مما يمنح المشاهد شعورًا بأن الممثل يخاطب الجمهور مباشرة، وليس زميله في المشهد. إنها ليست هدمًا للجدار الرابع بالمعنى التقليدي، لكنها طريقة مسرحية، حيث يؤدي الممثل مونولوجه منفردًا.
أسلوب خيري الإخراجي في هذا العمل ليس سوى مردود لاتفاق ضمني مع كتابة عبد الرحيم كمال، الذي بدأ تناوله للحكاية بأسلوب مسرحي، بل ويفكك عدة أعمال مسرحية ويسقطها على أزمة البطل.
الإسقاط من العمل المسرحي
ربما تظن أن الدراما عن مؤمن الصاوي، ولكن الحقيقة أن مؤمن هو المفتاح لأبواب حكايات وشخصيات كثيرة يقابلها، سواء داخل قهوة المحطة أو حتى خارجها. في قلبه حبيبته شروق (فاتن سعيد)، فننجرف مع والدها (ضياء عبد الخالق) كمشتبهٍ به أساسي، يقتل لحماية شرف ابنته. ورغم حالة الرعب المقصودة، سواء من المكياج الخاص بالشخصية أو الكادرات التي تجعله كالشبح واقفًا خلف باب الغرفة، وبراعة الأداء التمثيلي، يتم تفكيك قصة بعيدة كليًا عن مؤمن، والعثور على جريمة أخرى.
أما في يدي مؤمن، فهناك كتاب المآسي الكبرى لشكسبير، فهو منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى القاهرة، تأخذه المآسي بالأحضان: يُسرق، ويرفضه الأقارب، فيكرمه صاحب القهوة، المعلم رياض (بيومي فؤاد)، الذي لا يبتعد هنا فقط عن الأدوار الكوميدية، وإنما يقدم أحد أفضل أداءاته، حتى كدنا ننسى أنه قادر على هذا المستوى من التمثيل. والحقيقة أن أغلب الممثلين في قهوة المحطة يظهرون بشكل مختلف ومتميز عن أعمالهم الأخرى.
المآسي الكبرى لم تكن مجرد إسقاط على القاهرة وما سيواجهه فيها، وإنما هي أربع مسرحيات (هاملت – عطيل – الملك لير – مكبث) يفككها عبد الرحيم كمال، لنجدها متفرقة في المسلسل. منذ ركوبه القطار وسخرية النساء منه على حلمه، يُصورهن المخرج بشكل مرعب، فتظهرن كالساحرات الشمطاوات الشريرات، فيهب البطل ويرد عليهن كمن يقف على خشبة المسرح: أنتن ساحرات مكبث! ولم يكذبن خبرًا، فتحققت نبوءتهن لمؤمن.
أما عن هاملت، الأمير الباحث عن هويته، فنراه في طارق (يوسف عثمان)، ابن المعلم رياض، الذي يكتشف أنه ليس ابنه، ليبدأ رحلة البحث عن هويته الحقيقية وحقه في معرفة أصله، وهو ما يشبه ما تناوله غسان كنفاني في عائد إلى حيفا: هل الأصل الديني والاجتماعي يتحدد بالوراثة أم بالبيئة؟ ليس الدين وحده هو ما يتغير، بل المستوى الاجتماعي، والمكان، والحنان الذي يحظى به الإنسان. فعلى الرغم من قبول المعلم رياض لهذا الطفل التائه، إلا أن زوجته ألفت (انتصار) ترفضه، بل ترى مرض زوجها عقابًا إلهيًا. وهو ما يتماشى مع مفهوم البطل التراجيدي في فن الشعر لأرسطو: شخص نبيل، لكن قراراته الخاطئة تقوده إلى السقوط. وهكذا، رغم طيبة المعلم رياض، فإن احتفاظه بطفل يعرف أن له أهلًا آخرين، يؤدي به دراميًا إلى العقاب بالمرض.
سأترك لكم إيجاد الملك لير وعطيل في قهوة المحطة، أو حتى في القاهرة بأكملها، فالقهوة ليست سوى مجاز عن المدينة الكبرى ومآسيها. لكن اللافت أن عبد الرحيم كمال لم يعتمد على نصوص شكسبير وحدها، بل استلهم أيضًا نص مسافر ليل، أحد أبرز أعمال صلاح عبد الصبور في المسرح الشعري، فجعل مؤمن هو المسافر الذي يقتله عشري السترة في النص. وفي مشهد آخر، على خشبة المسرح، يقدم لنا أحمد غزي مسرحية القاهرة 30، فيشرح النص سريعًا، ويؤدي مونولوجًا طالبًا من الكاتب تصويره. كلها مشاهد ذكية، لكنها في النهاية مجرد إسقاطات على الموضوع الأساسي الذي يريد عبد الرحيم كمال الإشارة إليه، بحيث لو حذفنا بعضها فلن تتأثر الدراما أو سير الأحداث.
فما الداعي لأن يسأل الضابط عن شخصية مؤمن خلال التحقيق، ثم نعود بفلاش باك لمدى براعته التمثيلية؟ هل هذا يفيد في كشف القاتل؟
الإسقاطات المسرحية عنصر ممتع وثري، لكنها—وفقًا لقواعد الكتابة المسرحية—يجب أن تكون ضرورية. فلو حذفنا عبارة أو مشهدًا أو تفصيلة ولم يتأثر النص، فهذا يعني أنه يمكن الاستغناء عنه.
ختامًا، أتمنى ألا تكون الحلول في قهوة المحطة سحرية أو قدرية تلغي الواقع، كأن ينتهي الأمر بانتحار، أو خطأ غير مقصود، أو قاتل بلا دافع حقيقي. فهذا، وفقًا للمسرح اليوناني، يسمى حل الإله من الآلة (Deus ex machina)، حيث تتدخل الآلهة لحل الأزمة لأن الكاتب لم يجد مخرجًا منطقيًا.