“لا يمكنك فهم كاتب دون الرجوع لنشأته” 

عبارة بدأ بها المخرج راؤول بيك فيلمه الذي عرض مؤخرا في مهرجان الجونة  في دورته الثامنة؛ «أورويل 2+2=5». هذه العبارة تعتبر مبدأ متكامل مبني عليه قصة الفيلم. قد تظن في البداية أنه وثائقي عن الكاتب الشهير جورج أورويل، إنما في الحقيقة أنه أعم وأشمل من مجرد محاولة لفهم شخصية الكاتب، بل العمل هو مفتاح لفهم الحاضر والمستقبل من خلال خيوط من الماضي نسجها المخرج بشكل ذكي ومسلي. المستقبل ذاته الذي تنبأ به أورويل في رواية 1984 التي صدرت عام 1949، وكأن لم يختلف شيئا، وكيف يختلف حاضر ومستقبل من لم يتعلم من ماضيه؟ كيف يتغير مستقبل كوكب بشري بأكمله كان ويظل يحكمه مجموعة من الذكور المختلين محبين العنف والدمويه؟ أخذنا الفيلم في رحلة زمنية طويلة متعددة الطوابق مزيج بين السينما، الأدب، الفن والسياسية.

عشوائية محكمة التنظيم..

عُرض الفيلم الذي يمتد لمدة ساعتين في المهرجان ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، مائة وعشرون دقيقة وأنت مسافر في قطار بيك الذي يتنقل بين محطاته بعشوائية منظمة. يبدأ الفيلم الذي يتناول قصة حياة كاتب بالتأكيد تعرفه حتى لو لم تقرأ له شيئا، بمشهد تمثيلي له مع ابنه بالتبني وباستعمال الوميض الخلفي يعود بنا إلى حياة أورويل منذ ولادته. وفجأة، وبسلاسة شديدة  تجد نفسك في قلب ما يشبه التقارير الاخبارية، مقتطفات من الأحداث الاليمة والجرائم التي ارتكبت في حق “الإنسان” أيا كان موقعه. مدعما كل ذلك بمشاهد من أعمال سينمائية مبنية على كتبه مثل فيلم 1984 انتاج عام 1984 للمخرج مايكل رادفورد و 1984 انتاج عام 1956 للمخرج مايكل أندرسون وفيلم مزرعة الحيوان انتاج عام 1954 للمخرج جون ستيفنسون، بالإضافة إلى المشاهد التمثيلية التي زادت من متعة تجربة المشاهدة، كل ذلك مصحوب بموسيقى مناسبة تماما لأجواء الفيلم.

 هذا التنقل بين الوسائط والمواضيع وطرق التقديم المختلفة هو ما بنى طبقات الفيلم المتعددة. بالإضافة إلى الموضوع ذاته، فلا يمكن الجزم أنه فقط مجرد وثائقي عن حياة الكاتب وأعماله، أو حتى العلاقة بين الماضي والحاضر وقدرة أورويل على التنبؤ. فكلما تدبرت في الفيلم -الذي يستحق المشاهدة والتفكير طويلا- ستجد طبقة جديدة لم تكن تدري عنها شيء سواء على مستوى شخصية أورويل نفسه أو على مستوى الواقع السياسي الذين نعيش به.

فتش على الماضي دوما تفهم..

يذكر أورويل في رواية 1984 جملة “من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل.. ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي”، وبالرغم من أن الغرض من هذه الجملة ضمن سياقها في الرواية هو سياسي بحت، إلا أنها، بمنحنى نفسي يمكن أن تفسر كذلك سلوك وشخصية أورويل نفسه. يبدأ الفيلم بمشهد لأورويل مع طفله المتبنى وهو ينصحه ألا يخضع لأي ضغط، وألا يكون إلا نفسه وألا يسمح للآخرين أن يغيروه ليكون “مناسب”. ومن ثم يشرح لنا المخرج من خلال الماضي كيف طورت شخصية أورويل، وما هي أهم العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية التي أثرت في شخصيته وبالتبعية في أدبه.

“في سن مبكرة للغاية -ربما في الخامسة أو السادسة علمت أنني سأصبح كاتبا عندما أكبر لا مفر… عرفت بسهولة تطويع الكلمات والقدرة على مواجهة الحقائق البغيضة، وشعرت أن هذا خلق عالما خاصا يمكنني من حماية نفسي بداخله ومن فشلي في الحياة اليومية”.

جورج أورويل- لماذا أكتب؟

يمكنك من خلال العرض المقتضب في الفيلم لماضي أورويل وما تعرض له، و بالتوسع قليلا في البحث عن حياة هذا الرجل، ستجد أن الكتابة ما كانت هي إلا محاولة للسيطرة. مكروب ما بعد الصدمة يعاد ويكرر بشكل أو بأخر الأهوال التي مر بها وعانى منها بسبب الطبقية، التنمر، الشمولية والاستبدادية من خلال أحداث رواياته. أبطاله ما هم إلا إنعكاس لجورج نفسه الذي كثيرا ما هزم من ظروف حياته التي عاصرت واحدة من أكثر فترات الكوكب سوداوية وعنف. من المفترض أن تكون محاولات المصاب بكرب ما بعد الصدمة في تكرار الأحداث العنيفة قهريا هو -لاشعوريا- السيطرة عليها، لعلها تتغير هذه المرة! أما في حالة أورويل فكان تكراره ما هو إلا تأكيد بشكل ما على النهاية الانهزامية التي تعرض لها في كل محاولاته. علاوة على ذلك مرضه بالسل الذي تزامن مع فترة كتابة رواية 1984. وكأنه مريض منكسر هزمته الدنيا لكنه حاربها بشرف وفهم من أين يأكل الكتف، يكتب ليحاول تغيير النهاية ولكن-ومع شديد الأسف- تهزم أبطاله، قد يعود ذلك لإدراك أورويل أن النهاية لا يمكن أن تتغير طالما لم يتغير العالم! طالما نحن لا نزال نعيش تحت سلطة وسيطرة الرجل الأبيض.

ليست فلسطين فقط..

“الحرية هي العبودية

الحرب هي السلام

الجهل هو القوة”

بعد فوز الرئيس الحالي والأسبق للولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية للمرة الأولى في عام 2017، تصدرت رواية 1984 قائمة الروايات الأكثر مبيعا على أمازون. يعود السبب في ذلك لكيليان كونواي، المستشارة الأولى لترامب التي بررت كذبه في الدعاية الانتخابية على أنه “حقائق بديلة”. وهو ما ذكر الجمهور بمصطلح وفكرة أساسية في الرواية؛ “التفكير المزدوج”. ومن هذا التلاعب الفكري اللغوي المقنن الذي استخدمه ترامب ومعظم قادة الدول العظمى يشق بيك طريقة في تحليل وتفنيد الأحداث الكبرى التي مرت بها الإنسانية في السنين الأخيرة. فمن خلال المشاهد الوثائقيه في الفيلم يُعرض لنا أكاذيب الحكام، هؤلاء الحفنة من المخلتين نفسيًا الذين يحكمون العالم، وكيف يقومون بتغير الحقائق التي يشهدها العالم بالصوت والصورة لتناسب مصالحهم على اختلاف شكل هذه المصالح، سواء اقتصادية، سياسية أو عرقية. برع المخرج بشكل حقيقي في اختيار لقطات معينة من خطابات سياسية أو تصريحات رسميه حينما تقطع من سياقها لا يمكن تصديق أن هذا العبث خرج فعليا من أفواه حكام أكبر قوة اقتصادية وسياسية في العالم. أوكرانيا، بورما، العراق، الولايات المتحدة الأمريكية، الهند، روسيا وفلسطين الحبيبة، كلهم دول تضررت بشكل أو بأخر من المبادئ التي تحكم العالم وتنبأ بها أورويل قبل أكثر من سبعين عام.

في الوقت الذي كان من الممكن أن يستفيد الفيلم من القضية الفلسطينية التي هي الأشهر في العالم حاليا، قرر بيك ألا يكون فيلمه فقط مهتمًا بقضية واحدة، شعب واحد. بل حاول أن يفتش عن السبب، عن البداية. كيف وصل الحال بالأمة البشرية أن تشاهد مقتل عشرة ألف طفل في خلال عامان ومع ذلك لم يتحرك “القادة”؟ الإجابة التي حاول المخرج إبرازها، وهي موجودة داخل طيات كتب أورويل، أن السلطة المطلقة بالإضافة إلى القوة في يد أي شخص تحوله إلى شخص مستبد، وكلما كان لديه الأسحلة التي يتحكم في أدمغة العامة، تزداد قوته وتقل حدود ما لا يستطيع فعله. ففي العالم الحالي، نحن لا نحتاج لـ أخ كبير يراقبنا من خلال تليسكرين، فالنظام الرأسمالي الذي نما وتوغل في العالم يوما بعد يوم بعد انتهاء الحرب العظمى الأولى والثانية استثمر في كل الأدوات التي يمكن من خلالها أن “يسيطر” بكل ما تحمله الكلمه من معنى. وسائل تواصل اجتماعي تراقبك وتظهر دوما نماذج تجعل الفرد في عجلة يركض باستمرار مثل فأر الهمستر، من لا يركض يُدهس! بالإضافة إلى الجنس، المخدرات، وسائل تعذيب قمعية، تغذية القومية والشمولية. خطط محكمة توضع حتى لو ستؤتي ثمارها بعد خمسون عام أو أكثر! غير مهم، المهم أن تحرص الأنظمة الكبرى على أن تتحكم بالخيوط التي تربط بنا نحن عرائس الماريونت  لـ يسيروا في الطرق المعدة لهم مسبقا.

وعن إجابة سؤال كيف تجاهل العالم قتل كل هؤلاء الأطفال في عامين، فالحقيقة أن الأخ الأكبر لا يريدك أن تهتم، لا يريدك أن تفكر، وكم يثير حنقه أن تخرج إحدى الماشية عن القطيع. غضب يجعله لا يبالي حتى لو سيقتحم حرم الجامعة للقبض على الطلاب لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة. بل يبرر ذلك اعلاميا باستخدام “الحقائق البديلة” ويمر هو الأخر مرور الكرام. فلو قال لك الأخ الكبير أن 2+2=5 ستصدقه، وإن لم يكن طواعية فسيكون بالإجبار، حتى لو وسائل الإجبار خفية.

مشاركة: