في مطلع التسعينيات، شق الشاب المُولع بصناعة الأفلام بول توماس أندرسون، طريقه إلى مدرسة السينما بجامعة نيويورك. لكن سرعان ما تبخر شغفه الأكاديمي. ففي محاضرته الأولى، صدمه الأستاذ بقوله: “من يظن أنه جاء إلى هنا لكتابة فيلم Terminator فليغادر”. اعتبر أندرسون هذا الموقف نقطة تحول، متسائلاً عن مغزى هذا الرفض للرؤى الشعبية أو غير التقليدية. لقد أدرك أن هذا المسار سيخنق روحه المتمردة ورغبته في صناعة أفلام تعكس رؤيته الحرة. لذلك، اتخذ قرارًا ثوريًا: ترك مدرسة السينما بعد يومين فقط.

يُدين أندرسون بمسيرته المهنية لهذا الفعل المتمرد. بدلاً من الخضوع للمناهج التقليدية، قرر تعلُم الإخراج من خلال دراسة ومشاهدة الأفلام التي أحبها. وباستخدام مصروفات الدراسة، موّل فيلمه القصير Cigarettes & Coffee عام 1993، ليحقق نجاحًا مدويًا في مهرجان صندانس السينمائي، أهّله لدعوة من معهد صندانس لتحويل قصته إلى فيلم طويل، وهو  Hard Eight  الصادر عام 1996.

هذه النزعة المعادية للاستبداد جعلته يرفض المؤهلات الأكاديمية المتزمتة التي تحدد ماهية “الفيلم الجيد”، حتى وهو يُحتضن لاحقًا من قبل المؤسسات التي رفضها. إنه جزءًا من جيل المخرجين الثوريين الذين تخطوا المسار الأكاديمي، مثل ريتشارد لينكليتر وكوينتين تارانتينو، الذين أثبتوا أن الأصالة الفنية هي المدرسة الحقيقية لصناعة الأفلام. ولكن، هل لازالت نيران الثورة مستمرة؟

ماذا حدث للثورة؟

مع بلوغه منتصف الخمسينات، يقف أندرسون أمام مرآة الزمن، متأملًا جذوة التمرد التي أضاءت شبابه، ويقارنها بما أصبح مستحيلاً اليوم. في أحدث أفلامه المقتبسة عن رواية توماس بينشون One Battle After Another، يصارع المخرج العجز الثوري الذي يُصيبنا مع التقدم في العمر؛ عجز لا يستند إلى إلقاء اللوم، بل على الاستسلام الهادئ لفكرة عدم القدرة على حمل السيف. إنه صراع حول الثمن: نخشى أن الثورة الحقيقية تعني التخلي عن الأمان الزائف أو القليل الذي نملكه. يرسخ الفيلم هذا الصراع في قول سيرجيو لـ بوب، مُعطيًا إياه تعريفًا واضحًا لا يقبل الجدل: “هل تعرف ما هي الحرية؟ لا خوف”. إنه مفهوم ثوري، يصعب تقبّله، فهناك كل الأسباب للخوف، وهو أمر غالبًا ما يكبر مع التقدم في السن.

في بداية الفيلم، بمجرد أن تُنجب بيرفيديا ويلا، يرضى بوب بترك أيامهما الثورية خلفهما. لكن الزوجة التي تنحدر من سلالة الثوريين ترفض الاستسلام لوصايته الأبوية على القضية، ما يدفع بوب إلى السخرية منها بمرارة: “أحدثي الثورة يا عزيزتي”.

من خلال شخصية بوب، يُجري أندرسون حوارًا صادقًا مع جيله؛ جيل بدأ ثائرًا وانتهى حائرًا. يدعم بوب القضية، ولكنه بات أكبر وأبعد من أن يكون وجهًا لحركة  “فرينش 75”. يحاول بوب جاهدًا أن يكون تقدميًا، لكنه مُحبط من قيوده؛ فالقضايا الاجتماعية التي ناضل من أجلها قبل 16 عامًا لا تزال على حالها. بات بوب لا يعرف أي معارك يُركز عليها، فثمة معارك كثيرة وُلدت بالإضافة إلى تلك التي خاضها في صغره. هذا الإحباط يجسد مقولة بازوليني الشهيرة عن آلام الثورة: “لم أعد أستطيع أن أؤمن بالثورة، ولكن لا يمكنني إلا أن أكون إلى جانب الشباب الذين يناضلون من أجلها”.

هذا التفكك الثوري لا يقتصر على جماعة بوب؛ حيث يرسم الفيلم صورة لجماعات يغلب عليها الطابع الإقصائي، والمنعزل عن الشعب، سواء كانوا “فرينش 75″، أو “مغامري عيد الميلاد”، أو “راهبات الجبل”. الاستثناء الوحيد هو جماعة سيرجيو، التي تظل جزءًا من المجتمع، وليست منفصلة عنه. هذا هو الفشل الجوهري الذي تلخصه بيرفيديا بعبارتها المؤلمة: “نبدأ بثورة ضد الشياطين، وننتهي بأكل بعضنا البعض”.

ما يفعله أندرسون هنا ليس تراجعًا عن السياسة، بل تصادمًا مباشرًا معها، يُظهر جوانب القصور، ويترك التناقضات تتنفس، ويعترف بأنه عالق في دوامة ثورة بدأها وتأخر عنها، ومع ذلك لا يزال يُحاول أن ينهض من رماد فشلها، تمامًا مثل عبور تلك الوديان الجبلية، لا يعرف ما ينتظره ولكنه يعطينا لمحة عما يستحق المطاردة من أجله.

في منتصف الفيلم، يقول بوب للمُعلم سيرجيو: “لم أعد أغضب. لم أعد أغضب من أي شيء”. هنا يكمن إحباط بوب الأكبر. لقد تلاشى شغفه، وبدونه لم يعد بإمكانه أن يكون ثوريًا. إن أولوياته بدت منصبة فقط في العثور على ويلا التي تجد في النهاية روحًا ثورية متقدة داخلها. وهكذا، تصبح معارك ويلا المتتالية كفاحًا من أجل حريتها.

في النهاية، يضع أندرسون آماله على الجيل القادم عبر رسالة بيرفيديا لابنتها. يؤكد المخرج أن الثورة والحرية الحقيقية تتطلبان حلولاً جديدة تختلف عن أعمال العنف التي حددت ماضيها. ما هي الحلول؟ لا نعلم، لكن أندرسون يعلق آماله على الشباب لمعرفة ماهيته. نعم، ستُرتكب أخطاء، ولكن سيعقبها تغيير. وبمشهد النهاية، يُعيد أندرسون ضبط المسرح للمعركة التالية.

من أنت؟

يُجادل بول توماس أندرسون بأن العائلة ليست إرثًا بيولوجيًا، بل شيء نصنعه ونشكله ونختاره. في أفلامه، غالبًا ما تنحدر الشخصيات من أسر مفككة أو غائبة، تشكلت من أسس مكسورة وسلالات متباعدة، وانطلقوا بحثًا عن روابط بديلة. إنها شخصيات هشة تسعى إلى الألفة ووعد الانتماء. غالبًا ما يبحث أبطاله عن شيء أكبر من الحياة، شيء خارج أنفسهم يمكن أن ينقذهم من الغموض أو الوحدة.

طوال مسيرته السينمائية، يرسم أندرسون صورة لأشخاص يحاولون بناء عائلات من مساحات غير مضيافة. في Hard Eight، ينشئ مقامر مخضرم رابطة أب وابن مع شاب سيئ الحظ. وفي Boogie Nights، يُعاد صياغة صناعة الإباحية كـ “عائلة بديلة” مختلة وظيفيًا ولكنها حاضنة للمنبوذين، وهو دفء يتلاشى تحت وطأة الجشع والإدمان. وفي Punch-Drunk Love، يصبح الحب ملاذًا آمنًا لم تستطع روابط الدم توفيره. أما منزل دانيال بلينفيو في There Will Be Blood، يجسد فساد العائلة من خلال الرأسمالية، بينما تعكس كنيسة إيلي صنداي هذا الفساد من خلال الدين. وتتحول العائلة في Phantom Thread، إلى هيكل قمعي يحكمه الكمال.

لا يغيب شبح العائلة عن فيلمه الأحدث  One Battle After Another فما تمر به الشخصيات هنا لا يختلف كثيرًا عما يختبره أبطال أندرسون: الجميع يبحث عن الحب، الانتماء، لحظات الدفء العائلي. نرى بوب يفتش عن ملاذ آمن بين أحضان بيرفيديا، حتى لوكجو يتوق إلى عشق محرم بعيد المنال، وحين يفشل يسعى للانتماء إلى جماعة متطرفة سرعان ما تنبذه في النهاية.

في بداية الفيلم، تجادل والدة بيرفيديا بأن بوب لا يناسب ابنتها على الإطلاق؛ هي فتاة ثورية ومنطلقة، بينما هو تائه ومتجذر. يحل صمت مطبق حين تسأله الأم ماذا تخطط لهذه الطفلة؟ يشعر بوب بثقل ما يُقبل عليه، فلا ينفك أن يفارق الرضيعة لدرجة تشعر معها الزوجة وكأنها مجرد “قطعة لحم أو مضخة للحليب” وتنخرط في اكتئاب ما بعد الولادة. وفي خضم صراعها للموازنة بين أدوارها كأم وشريكة حياة وقائدة ثورية، تنهار الروابط العائلية وتغادر، تاركةً بوب أبًا عاجزًا وحيدًا.

في مشهد مؤثر خلال رحلة بحثه عن ويلا، يبوح بوب للمُعلم سيرجيو بصعوبات الأبوة لابنة مختلطة الأعراق. كل ما يطمح إليه هذا الأب المُنهك هو أن تطرق بيرفيديا بابه وليس لوكجو، لتعلم ويلا أمور الفتيات، فهو لا يعرف كيف يُمشط شعر ابنته أبدًا. هذا المشهد يوازي قصة شخصية عاشتها زوجة أندرسون، الممثلة مايا رودولف، في طفولتها، حيث عجز ابيها عن تصفيف شعرها بعد وفاة أمها: “قضيت معظم طفولتي في التعامل مع شعري والشعور بالحرج الشديد منه، ويرجع ذلك أساسًا إلى نشأتي كطفلة مختلطة الأعراق”.

يُشكّل المشهد بين بوب وسيرجيو استعارة هامة لماهية الأبوة. ففي الوقت الذي يشعر فيه بوب بالذنب لعجزه عن حماية ويلا من الصراع الدائر، يسعى والدها البيولوجي لوكجو بكل قوته للتخلص منها وتطهير عرقه “النقي”. يبقى سؤال الأبوة حاضرًا في فيلموجرافيا أندرسون، ويتجلي في ذروة تسلسل المطاردة الحابس للأنفاس حين تصيح ويلا في وجه بوب وتسأله: “من أنت؟”. إنه سؤال مُثقل بالنسبة لها. فمنذ انفصالها عن الرجل الواقف أمامها، أدركت أنه كان يكذب عليها طوال حياتها تقريبًا. ربما تتساءل إن كان بوب نفسه على علمٍ دائمٍ بهويتها الحقيقية.

في النهاية، سواء أكان بوب يعلم أو لا، يبقى في نظر ويلا هو الأب الذي ربّاها. هي تعلم ذلك وهو يدركه أيضًا. إن تطابق ويلا مع لوكجو في الحمض النووي ليست سوى تفصيلة عابرة لا تؤثر على هويتها الحقيقية. فدائمًا ما يتلخص جوهر الأبوة عند أندرسون في الفعل وليس الاسم. في بداية الفيلم، تناديه ويلا بـ “بوب”، ولكن بعد ما اختبراه سويًا على طول الطريق واكتشافها أنه ليس والدها البيولوجي تنادينه في النهاية بـ “أبي”.

يرفض بول توماس أندرسون الحلول البسيطة. فالعائلة ليست مصدر رعاية أو دمار مطلق، بل هي دائمًا معقدة. هذا التوتر بين الراحة التي نتوق إليها والفوضى التي تجلبها حتمًا هو ما يمنح أعمال أندرسون قوتها، حيث يبقي سؤال الانتماء والحب حيًا في كل أفلامه.

كم الساعة؟

في فيلمه One Battle After Another، لا يكتفي المخرج بول توماس أندرسون بسرد قصة جماعات ثورية سرية، بل يغوص في تحليل عميق لدور اللغة والرمز كوسائل للتخفي، بناء الهوية، بل وحتى كأدوات للنقد الأيديولوجي. يتماهى أندرسون مع الطابع الثوري لحركة “فرينش 75″، معتمدًا على حوار يغلب عليه التشفير والرمزية، حيث تتجاوز الأسماء مجرد التعريف لتصبح بذورًا تنبت منها المسارات السردية.

يبدأ توظيف اللغة بالرمزية عبر أسماء الشخصيات والحركات، حيث يغرس أندرسون نبوءات مشفرة تتماشى مع مسار كل منها. فعلي سبيل المثال، يُشير اسم “بيرفيديا” (Perfidia)، الشخصية التي لعبتها تيانا تايلور، في الإسبانية إلى “الغدر”، وهذا يفسر إلى حد كبير المسار الذي اتخذته لاحقًا مع عائلتها. أما “لوكجو” (lockjaw)، فيُشير إلى مرض “التيتانوس” الذي يُصيب الجهاز العصبي، وتتجلى رؤيته في التشنجات التي تشل جسد العقيد في مشيته المتصلبة وكلماته المتقطعة.

ولكن الأمر يتجاوز ذلك، فالأسماء ليست سوى مدخل إلى توظيف السيناريو الذكي للغة. هذه الوظيفة مُدمجةٌ مباشرةً في الطبيعة السرية لكل معسكر، والتي يستخدم أعضاؤها أسماءً مستعارةً ليس فقط لإخفاء هوياتهم، بل لتحقيق غرض محدد، غالبًا ما يتمحور حول الطريقة التي يُريدون أن يُنظر إليهم بها.

هذا يتجلى في اسم الحركة “فرينش 75″، فهو لا يُشير إلى جنسيتهم أو حتى إلى عدد أعضاؤهم. إنه مصمم ليستحضر صورة الثورة الطلابية الفرنسية في الستينيات، وهو ما يتماشى بالتأكيد مع طابع الفيلم العام. كما يشترك في الاسم أيضًا مع كوكتيل قُدّم لأول مرة في حانة باريسية مع فجر الحرب العالمية الأولى، التي غيرت وجه العالم الحديث.

يتجلى التناقض الأيديولوجي في اسم الجمعية السرية للعنصريين البيض “مغامرو عيد الميلاد”. فإشارات الكريسماس (الدين، التجمعات العائلية، الثلج الأبيض) تعكس أفكارهم العرقية الآرية. فهم يغطون أنفسهم بعظمة خيالية أقرب لسانتا كلوز، يريدون أن تكون تجمعاتهم دافئة، وكأنها ملاذ من عالم بارد مليء بـ “نفايات بشرية” من منظورهم.

بهذا، يغرس بول توماس أندرسون بذرةً، فتنبت سريعًا. وفجأةً، تتفجر إشارات اللغة والشفرات والغرض منها في كل أرجاء فيلمه. لاحقًا، ستصبح اللغة أداة هامة للتحقق من الهوية، وهذا يتضح من خلال حوارات بوب مع رفاقه السابقين، التي غالبًا ما تنحدر إلى حد العبث.

خلال مشهد كابينة الهاتف العمومي، يحاول بوب جاهدًا الإجابة على أسئلة الرفيق جوش، ورغم اجتيازه طبقات متعددة من الشفرات، مُثبتًا بذلك عضويته، إلا أنه لا يتذكر إجابة سؤال “كم الساعة؟”، فيسخر منه جوش لعدم دراسته النصوص الثورية بتفانٍ، ويرفض أن يُعطيه نقطة اللقاء.

يُظهر هذا المشهد كيف يمكن لليساريين -أحيانًا- وضع حواجز تعسفية واستخدامها ضد حلفائهم ذوي النوايا الحسنة. قد لا يكون الحليف مُلِمًّا تمامًا بالقواعد، لكن هذا لا يجعل منه عدوًا أو خائنًا. هذا الحوار الذي يغلب عليه طابعًا كوميديًا، يُمثل في عمقه نقدًا لغويًا لاذعًا لهذه الجماعة “الثورية”، حيث أصبحت معرفة إجابة السؤال أهم من هوية الشخص أو حتى حياته.

إن الهدف من هذه الأسئلة السخيفة ليس مجرد السخرية من التشرذم اليساري، بل تجريد التعقيدات السياسية من حقيقة أبسط بكثير، مفادها أن اللغة المشفرة تفقد تأثيرها عندما تنفصل عن غرضها المقصود، أو بمعنى آخر: عندما تنفصل عن الواقع.

وهذا يتناقض بشكل صارخ مع ما يقوم به المُعلم سيرجيو ورفاقه اللاتينيين. فبينما يقود مدرب الكاراتيه عشرات الأسر المذعورة عبر ليلة فوضوية في مدينة “باكتان كروس”، لا يتحدث أبدًا بلغة مشفرة، بل يتحدث بالإسبانية فقط. يتعمد المخرج ترك هذه الحوارات على الشاشة بدون ترجمة، ليوضح لنا كيف يمكن أن تعمل اللغة العادية كإشارات مشفرة عند مواجهة أعداء متغطرسين لا يستطيعون فهمها.

يُشير أندرسون عبر هذا التسلسل المُحكم البناء أن فعل المقاومة لا يتطلب كل هذا الكم من عناء فك الشفرات. فبينما استخدم جوش ورفاقه اللغة ليشعروا بأنهم ثوريون، اعتمد سيرجيو على اللغة العادية للقيام بثورات مؤثرة على الأرض. إن هذا المُعلم وجماعته ليسوا حركة ثورية مُدربة، إنهم أشخاص عاديين يواجهون عبث الحياة كل يوم بخفة وهدوء، تمامًا كتلك الرقصة التي يؤديها سيرجيو أمام سيارة الشرطة قبيل اعتقاله.

 

مشاركة: