ﺧﻼل اﻟدورة اﻟﺛﺎﻣﻧﺔ ﻟﻣﮭرﺟﺎن اﻟﺟوﻧﺔ اﻟﺳﯾﻧﻣﺎﺋﻲ اﻟدوﻟﻲ، ﯾُﻌرض اﻟﻔﯾﻠم اﻟﻔرﻧﺳﻲ «ﻧﯾﻧو/ Nino» ﺿﻣن اﻟﻣﺳﺎﺑﻘﺔ اﻟرﺳﻣﯾﺔ ﻟﻸﻓﻼم اﻟرواﺋﯾﺔ اﻟطوﯾﻠﺔ، اﻟﺗﻲ ﯾﺗﻧﺎﻓس ﻓﯾﮭﺎ ﺛﻼﺛﺔ ﻋﺷر ﻓﯾﻠﻣًﺎ ﻣن ﻣﺧﺗﻠف أﻧﺣﺎء اﻟﻌﺎﻟم. ﯾﺄﺗﻲ ھذا اﻟﻌرض ﺑﻌد اﻟﻧﺟﺎح اﻟﻛﺑﯾر واﻻﺳﺗﺣﺳﺎن اﻟﻧﻘدي اﻟذي ﺣظﻲ ﺑﮫ اﻟﻔﯾﻠم ﻓﻲ ﻋرﺿﮫ اﻷول ﺿﻣن أﺳﺑوع اﻟﻧﻘﺎد ﺑﻣﮭرﺟﺎن ﻛﺎن اﻟﺳﯾﻧﻣﺎﺋﻲ اﻟﺛﺎﻣن واﻟﺳﺑﻌﯾن، ﺣﯾث ﻓﺎز ﺑﺟﺎﺋزة اﻟﻧﺟم اﻟﺻﺎﻋد اﻟﻣﻘدّﻣﺔ ﻣن ﻣؤﺳﺳﺔ ﻟوﯾس روﯾدرﯾر.
ﯾﻣﺛل اﻟﻔﯾﻠم اﻟﺗﺟرﺑﺔ اﻟرواﺋﯾﺔ اﻟطوﯾﻠﺔ اﻷوﻟﻰ ﻟﻠﻣﺧرﺟﺔ ﺑوﻟﯾن ﻟوﻛّﯾس، ﯾﻘوم ﺑﺑطوﻟﺗﮫ اﻟﻣوھﺑﺔ اﻟﻛﻧدﯾﺔ ﺗﯾودور ﺑﯾﻠﯾرﯾن، اﻟذي ﻟﻔت اﻷﻧظﺎر ﺑﺄداﺋﮫ اﻟﮭﺎدئ واﻟﻌﻣﯾق ﻓﻲ ﺗﺟﺳﯾد ﺷﺧﺻﯾﺔ ﺷﺎب ﯾواﺟﮫ ﻣرﺿًﺎ ﻣﻣﯾﺗًﺎ ﺣﯾث ﯾﻘدم اﻟﻔﯾﻠم رﺣﻠﺔ داﺧﻠﯾﺔ ھﺎدﺋﺔ ﺑﯾن اﻟﺧوف واﻟﻘﺑول ﺑﺎﻟﻘدر ، وﺑﯾن رﻏﺑﺔ اﻹﻧﺳﺎن ﻓﻲ اﻹﻣﺳﺎك ﺑﻣﺎ ﯾﺗﺑﻘﻰ ﻣن وﺟوده ﻗﺑل أن ﯾﺗﻼﺷﻰ.

ثنائية الموت والحياة
يبدأ الفيلم حين يكتشف الشاب الهادئ والخجول “نينو” إصابته بسرطان الحلق عشية عيد ميلاده التاسع والعشرين. يُبلّغ بأن عليه البدء في العلاج الكيميائي فورا وهو ما قد يعرّض قدرته على الإنجاب للخطر. يُطلب منه أن يقوم بتجميد حيواناته المنوية قبل بدء العلاج، في محاولة للاحتفاظ بإمكانية أن يصبح أبًا يومًا ما, يدور الفيلم في عطلة نهاية الأسبوع التي تسبق بدء العلاج، وهي الأيام التي يقضيها نينو في مواجهة مخاوفه من المرض و خوفه من الموت، بينما يحاول إخبار عائلته وأصدقائه بحقيقة مرضه.
تتعامل المخرجة بولين لوكّيس مع فكرة الموت والمرض برهافة بصرية لافتة، إذ لا تقدّم المرض كمأساة، بل كجزء من دورة الحياة العادية. في المشهد الافتتاحي، تُبلغه الطبيبة بخبر إصابته بطريقة باردة، أقرب إلى تقريرٍ يوميٍّ منها إلى مأساة شخصية. يسألها نينو عن احتمالات وفاته، فتجيبه بهدوء بأن “كثيرًا من شباب باريس يصابون بهذا المرض”، قبل أن تضيف، كمن يخفف وقع الصدمة، أنه قد لا يفقد شعره أثناء العلاج الكيميائي، لكنه قد يصبح عقيمًا.
بعد صدمته بحقيقة مرضه، تستخدم” لوكّيس “ لقطات علوية واسعة تُظهر نينو صغيرًا وسط اتساع المدينة، كأنه نقطة هشّة في مواجهة عالم غير مبالٍ بوجوده. باريس هنا تبدو كخلفية باردة وموحشة، يغمرها طيف من الأزرق والرمادي، في انعكاس مباشر لعزلته واغترابه. هذه الألوان ليست مجرد اختيار جمالي، بل امتداد لحالته النفسية، خصوصًا بعد أن فقد مفاتيح شقته، ليتحوّل تجواله في المدينة إلى رحلة داخل غربته الخاصة، كمتاهة رمادية تعكس اضطرابه الصامت وسط فوضى التفاصيل اليومية
تتابعه الكاميرا أحيانًا عن قرب، دون أن تتطفل على خصوصيته، مانحةً إياه مساحة للتنفس داخل عزلته. وتستعين المخرجة بالإضاءة الطبيعية، والألوان الباهتة، والإيقاع البطيء كأدوات لتعزيز شعور الوحدة والتيه، حيث يجد نينو نفسه عالقًا في منطقة رمادية بين الحياة والموت

بولين لوكّيس: امتداد روح فاردا في كليو من الخامسة إلى السابعة
تنتمي المخرجة بولين لوكّيس في فيلمها Nino إلى تقاليد السينما الفرنسية التأملية، التي تهتم بما يشعر به الإنسان أكثر مما يحدث حوله. هذا النوع من السينما يركّز على الحوار المقتضب والزمن الداخلي للشخصيات بدلًا من الأحداث الكبرى. كما فعلت أنييس فاردا في فيلمها الأشهر«كليو من الخامسة إلى السابعة»، حيث تتابع بطلتها وهي تترقب نتيجة فحص سيحدّد إن كانت مريضة بالسرطان أم لا، عالقة على حافة الانتظار في مواجهة مخاوفها والمدينة، تصوّر لوكّيس نينو وهو يعيش مواجهة صامتة مع جسده وزمنه المتبقي قبل بدء العلاج الكيميائي ومحاولاته لحفظ نسله . تجعل من أيامه القليلة مساحة للتأمل في ماضيه، في فقده لوالده، وفي مستقبله المعلّق.
وفي الوقت نفسه، تستلهم لوكّيس روح الموجة الفرنسية الجديدة التي أحدثت ثورة في شكل الفيلم ولغته، إذ منحت الكاميرا حرّيتها، وأطالت اللقطات لتلتقط الزمن الإنساني كما هو، وخرجت إلى شوارع باريس لتجعلها فضاءً للحياة لا مجرد خلفية. كما كسرت قوالب الحكاية النمطية، مفضّلة الموضوعات البسيطة والإنسانية على الدراما الصاخبة. يسير نينو على هذا الدرب بوعي هادئ، متبنّيًا تلك الحرية الشكلية والمضمون التأملي ذاته، كأنه امتداد معاصر لذلك التراث الذي جعل من السينما وسيلة للتفكير في معنى الوجود.
اللافت والجديد في Nino أنه يقلب المنظور التقليدي لما يُعرف بـ«الساعة البيولوجية» للنساء , فلطالما ارتبط هذا المفهوم بالمرأة وضغط المجتمع عليها للإنجاب قبل أن “يفوت الوقت”، لكن الفيلم يمنح هذا القلق وجهًا ذكوريًا لأول مرة. حين يُصدم نينو بتشخيص مرضه ويُطلب منه حفظ حيواناته المنوية قبل بدء العلاج الكيميائي، نكتشف أن الزمن الجسدي لا يخص النساء وحدهن، بل يطارد الجميع. هنا تتحول الساعة البيولوجية إلى رمز شامل للهشاشة الإنسانية، لا للخصوبة فقط، وكأن الفيلم يقول إن الوعي بالموت يعيد تعريف معنى الحياة والرغبة في الاستمرار.
كل ذلك يضع نينو بقوة ضمن قائمة أبرز المرشحين للفوز بإحدى المراتب الثلاث الأولى في المسابقة، خصوصًا بعد ما ناله من استحسان واسع من الجمهور والنقاد على حدّ سواء.
ناقدة سينمائية