قدّم جيم جارموش سابقًا في تاريخه الفني أعمالًا تحكي أكثر من قصة مختلفة تتشارك جميعها في عنصر واحد، مثل نوع المسمّى الوظيفي في فيلم “حدث في ليلة واحدة”، حيث جعل شخصيات الفيلم جميعها تعمل في قيادة سيارات الأجرة في دول ومدن مختلفة. وقد تناول من خلال ذلك طبيعة هذا العمل وتنوّع الأشخاص الذين يمارسونه، كاشفًا مدى الترابط بين هذه الشخصيات في آنٍ واحد، رغم اختلافها.

أو في فيلم “قهوة وسجائر”، حيث جعل المقاهي المختلفة مسرحه الخاص لحكاية شخصياته، وجمعهم عبر شيء اعتيادي تمامًا لخلق حالة من التشابه التي مستهم جميعًا أثناء اجتماعهم سويًا.

والآن يعود جارموش بفيلم جديد يحمل الطابع ذاته لتلك الأفكار التي قدّمها من قبل، لكن هذه المرة من خلال ربط مفاهيم مختلفة عن كل عائلة وما ينقصها مقارنةً بالأخرى، في تشابكٍ يجمعهم إحساس الفقدان الجماعي.

(الأب)

تبدأ أولى حكايات جارموش في الفيلم بأخٍ وأختٍ في رحلة خاصة لزيارة والدهما، الذي يبدو أنهما ابتعدا عنه طويلًا. يسير الأخ (آدم درايفر) في الطريق بلا رغبة حقيقية، ويتضح ذلك من طريقة قيادته؛ فهو يذهب فقط ليتجنّب شعور العقوق الذي يلاحقه. اختار جارموش أن يجعل محور الحكاية هو الأب من خلال عين الابن، وسرعان ما يظهر الأب ليكشف جارموش من خلاله ملامح القلق والتوتر، وكأن هناك سرًّا يخفيه ولا يريد الإفصاح عنه. ومع مرور الوقت، تتّضح طبيعة هذا الجزء من الفيلم، إذ تسوده لحظات اعتيادية خالية من المفاجآت أو الأحداث الكبيرة.

تجري القصة الأولى في فصل الشتاء، وسط ثلوج ولاية نيوجيرسي، حيث ينعكس البرود الخارجي على أجواء الأحداث. وعند وصول الأخ والأخت إلى منزل الأب، يسيطر عليهما شعور بالحزن المكبوت الناتج عن إهمالهما له، لكنهما يحاولان إخفاءه حفاظًا على المظهر الذي اعتادا إظهاره أمامه. تمرّ الزيارة بعدة لحظات بسيطة تتخللها شرارات صغيرة من المفاجأة، تؤكد وجهة نظر الأبناء تجاه والدهم، إلى أن تأتي لحظة الوداع التي اختار جارموش أن يختمها بسردية فكاهية مباغتة فاجأت الجميع بطريقة التفافها داخل حبكة الفيلم.

(الأم)

ينتقل جارموش سريعًا بعينيه التي تواصل استكشاف فكرة الترابطات إلى دبلن في أيرلندا، حيث تدور الحكاية الثانية حول أختين تسلك كلّ منهما طريقًا مختلفًا تمامًا، ولكل واحدة منهما شخصيتها الخاصة وتوجهاتها المميزة. فبعد أن كانت الحكاية الأولى تدور حول علاقة الأخ والأخت بأبيهما وغياب التواصل بينهما بعد وفاة والدتهما، يأتي هذا الفصل ليعكس حالة الانفصال بين الأخوات، وكيف أن الرابط الوحيد بينهما هو الأم.

تظهر شخصية الأم كمن فقدت الإحساس بالترابط الأسري، لكن سرعان ما يتضح أن ما أحدث المسافة بين الأختين هو المقارنة الدائمة وروح التنافس. ومع تقدم المشاهد، يبرز اختلاف الأختين أكثر، رغم أن كليهما يسعى لنيل رضا الأم التي زرعت في داخلهما، دون قصد، روح المقارنة عبر السنين.

ويترجم جارموش هذا التباعد بصريًا عبر لقطات تُظهر الأختين في تكوينات غير مترابطة داخل الكادر، وكأن شيئًا غريبًا يفصل بينهما، تُكلّلها حالة خفية من الانكسار. وتستمر مقابلة الإفطار بينهما على هذا النحو، حتى تصل إلى مشهد الختام الذي يكشف مدى اضطراب مشاعر الأم وتناقضها تجاه ما دار في تلك الجلسة المشحونة بالعوائق النفسية المرهقة.

(أخ وأخت)

ننتقل سريعًا إلى باريس، ومع الدقائق الأولى من الحكاية الثالثة، يكشف جارموش عن حياة أخٍ وأختٍ يطغى عليها عدم الاستقرار في كل تفاصيلها. ويتضح لاحقًا أن هذا الاضطراب ناتج عن غياب أهم مسببات الاستقرار في حياتهما الخاصة، التي لم تكتمل على النحو المرجو.

يسعى جارموش هنا إلى استكشاف ما أعاق مسار حياتهما حتى وصلا إلى هذه المرحلة العمرية، مقدّمًا رؤيته بأن غياب الأب والأم قد يخلق نوعًا مختلفًا من الترابط الأخوي، لا يشبه أي علاقة أخرى. وقد جسّد هذه الفكرة بطريقته المعتادة، إذ فضّل استحضار الذكريات دون عرضها مباشرة، ليقرب إحساس الشخصيات من عقل المشاهد وقلبه في آن واحد. وبرأيي، نجح جارموش في ذلك بذكاء حتى اختتم هذه المسرحية الطويلة بلقطة نهائية مؤثرة.

(خاتمة)

نجح جارموش، إلى حدٍّ ما، في تقديم أكثر من رؤية مختلفة حول العلاقات الأسرية بمختلف أطرافها ومفاهيمها، من خلال سيناريو ذكي مليء بالحوار العميق الذي أتاح للممثلين مساحة للتعبير عن انفعالاتهم بأسلوب خاص ومؤثر. لكن إخراجيًا، بدا أن جارموش قدّم أقل مما يملك؛ إذ لم يتمكن فيلمه من بلوغ خط النهاية بالشكل المطلوب، سواء في توظيف الرمزية التي لم تضف الكثير إلى الحكايات الرئيسية، أو في الإيقاع البطيء الذي سلب الفيلم بعضًا من تميّزه.

 

مشاركة: