في التراث المصري مثلٌ متداول يقول: “عمل من الفسيخ شربات”. يمكن تطبيق هذا المثل، بشكلٍ ما، على دور الفنان الشاب أحمد مالك في فيلم «كولونيا»، الذي حصد عنه جائزة أفضل ممثل من مهرجان الجونة السينمائي، ليصبح أول مصري ينال هذه الجائزة منذ انطلاق المهرجان. الفيلم هو العمل الروائي الأول للمخرج محمد صيام، الذي شارك في كتابته أحمد عامر. ومن بطولة الممثل الفلسطيني كامل الباشا، ومايان السيد، وعابد العناني، وإنتاج محمد حفظي، وقد حظي بدعمٍ واسع من جهات عدة، منها مهرجان القاهرة السينمائي، ومؤسسة الدوحة للأفلام، وسيني الجونة، والصندوق النرويجي لدعم الأفلام، ومؤسسة Good Vibes، بالإضافة إلى قائمة طويلة من المؤسسات العربية والعالمية. فهل هناك سببٌ معيّن يجعل كل هذه المؤسسات تدعم فيلم «كولونيا»؟
«كولونيا»: ذكرى شخصية تحاول صياغة صراع لم يُعَش
يتناول الفيلم، الذي تدور أحداثه كلها في ليلة واحدة، ليلة العيد، العلاقة المتوترة بين الشاب فاروق ووالده عمر، وحالة الشد والجذب بينهما طوال الليلة. تلك العلاقة كان من المفترض أن تكون حجر الأساس للفيلم، ولكن، وبأشكال غير متسقة، تُقحَم قضايا أخرى مثل العبور الجنسي، والمثلية الجنسية، والخيانة الزوجية في الأحداث، وكأن المخرج يريد أن يقول كل شيء في آنٍ واحد، أن يكسر كل التابوهات في آنٍ واحد. وهو أمر غير مبرَّر بالمرة، لأن قضية بحجم “المشكلات تجاه الأب” تحمل في ذاتها من الدسامة ما يكفي لجعل الفيلم عملًا ممتازًا، إذ تحتوي وحدها على ما يكفي من المشاعر والتابوهات المسكوت عنها لصنع عمل قوي وحسّاس يلامس جوانب نفسية كثيرة لدى المتفرج.
قبيل العرض الثاني للفيلم في المهرجان، ألقى المخرج كلمة قصيرة عن سبب عمل الفيلم واختيار قصته. يعود ذلك إلى موقف بسيط تعرّض له، إذ توفي والده وهو في سنٍّ صغيرة، وعندما وجد ضمن أشياء والده القديمة “زجاجة كولونيا”، قرر أن يصنع فيلمًا يحمل اسم «كولونيا» أو «رائحة أبي» بالإنجليزية. أي إن كاتب الفيلم نفسه، بسبب فقده والده في سنٍّ مبكرة، لم يختبر المشاعر التي حاول أن يصوغها من خلال بطله فاروق.
والسؤال هنا: هل على المبدع أن يتناول فقط المواضيع التي اختبرها شخصيًا؟ الإجابة بالطبع لا. لكن تظهر إجابة مختلفة عند التأمل في سيرة وأعمال فيودور دوستويفسكي بلا شك.
أيها المبدعون، كُتِبَت عليكم المعاناة
حتى نفهم بشكل أعمق تأثير المعاناة على الإبداع، نحتاج أن نُقلب صفحاتٍ بسيطة جدًا من حياة فيودور دوستويفسكي، لنرى كيف انعكست معاناة هذا الرجل في أعماله، وكيف استغلَّ كل تجربة عاشها، وكل موقف شهده، وكل إحساس بغيض مرَّ به، ليكتب رواياته. فروايات دوستويفسكي، التي تُعَد من خوالد الأدب العالمي والمرجع الأساسي في الكتابة الواقعية، ليست سوى انعكاس لجوانب حياته.
هذا الانعكاس جعل الأب الروحي للتحليل النفسي، فرويد، يستند إلى أدب دوستويفسكي في صياغة قوانين التحليل النفسي؛ كاللاشعور، والرموز في الأحلام، فضلًا عن العلاقة بين الأدب والتحليل النفسي. ببساطة شديدة، يمكنك أن تجد في طيّات كل أعمال فيودور تجسيدًا لصورة الأب الذي عانى منه، ورغم ذلك يجمعه به حبٌّ شديد، وكذلك صورة الأم الحنونة التي أثّر فيه فراقها. حتى المواقف اليومية البسيطة التي مرّ بها، تجد صداها في أدبه، فكل أدبه هو انعكاسٌ لمعاناته.
أنا أؤمن بأن “النجاة لم تكن إلا للكتابة، والكتابة لم تكن إلا للنجاة.” ننجو من الأهوال حتى نكتب عنها، ونكتب عن الأهوال حتى نتحرر منها. تُصرّح الناقدة علياء طلعت لـ”مشهد 1″ قائلةً: “الكتابة الذاتية ناتجة عن الضغط والألم. حينما تجد فكرة جذابة وتصوغ نصًا رائعًا، في الأساس يحركك الحزن. عندما تحررت من القلق، وأصبحت الرغبة في الكتابة تتطلّب استرجاع هذا القلق مرة أخرى، توقفت. على عكس الكتابة النقدية التي لا أواجه فيها أي عقبة، لأنني خارج النص. وإن كان ثمن تجنّب ثقل القلق هو كتابة ذاتية أقل، فأنا مستعدة لدفع هذا الثمن”.
لماذا مالك هو الاختيار الأمثل؟
قبل نحو عام ونصف عام تقريبًا، ظهر الفنان أحمد مالك في لقاء مع المحاور أنس بوخش، وكالمعتاد من بوخش، كان اللقاء صادقًا وحقيقيًا بلا تزيين. تحدَّث مالك، ودموعه تلمع في عينيه أحيانًا، عن علاقته بوالده ووالدته، وتجربة طلاق والديه التي مرّ بها في مراهقته، وعلاقته بنفسه وكيف يراها، والكثير من التفاصيل الشخصية التي تُظهر محاولاته المستمرة ليكون “أفضل”. ولا تحتاج إلى قراءة ما وراء السطور لتفهم أن مالك، ولوقتٍ طويل، عانى من علاقة متوترة مع والده، لكنه مع ذلك يؤكد أنه دائمًا يحاول أن يتفهمه. وهو الأمر الذي أشار إليه أيضًا في لقاءاته بعد عرض الفيلم وفوزه بالجائزة، إذ قال إن تجربة «كولونيا» ساعدته في تفهُّم والده ودوافعه وطريقة تفكيره.
وإجابة سؤال: لماذا مالك هو الاختيار الأمثل لدور “فاروق” في الفيلم؟ خصوصًا بعد تصريح المخرج بأنه كان اختياره الأول ولم يكن ليرضى بأي بديلٍ ثانٍ، بسيطة للغاية؛ لأن مالك اختبر شخصيًا الفكرة الأساسية التي بُني عليها الفيلم، وهي “المشكلات تجاه الأب”. فكما صرّح لأنس: “كان نفسي والدي يكون بيسمع أكتر“، قالها وعيناه تملؤهما الدموع. وهو مشهد يتكرر كثيرًا، وأحيانًا بشكل مُملّ، في «كولونيا». ففي كل مواجهة بين الأب والابن على مدار الفيلم، الذي تدور أحداثه في أقل من اثنتي عشرة ساعة، يصرخ فاروق في وجه أبيه، وأحيانًا تكون تلك الصرخات صامتة، راجيًا منه أن يسمعه ويفهمه ويقدّر مشاعره.
يبدو على أحمد مالك مؤخرًا نضجٌ كبير، سواء على المستوى الشخصي أو المهني. فعلى المستوى المهني، كانت اختياراته في العام الأخير موفقة ومتنوعة. بدأ العام بفيلم «6 أيام»، الذي قدّم فيه نفس الشخصية في مراحل مختلفة تتغير مع التقدّم في العمر، وبرع في أدائها بشكل مقنع. أما ثاني أعماله فكان مسلسل «ولاد الشمس»، الذي يمكن بشكلٍ خفي أن تلمح فيه أثر علاقته الوطيدة بوالدته، إذ يبحث طوال المسلسل بولهٍ عن والدته التي حُرم منها منذ طفولته، وكأنها طوق نجاته الوحيد في الحياة. ومن جانب آخر، علاقته بصورة الأب المتمثلة في “بابا ماجد” كانت أقل حميمية من باقي إخوته في الملجأ. وفي رأيي، لا يأتي هذا الصدق في الأداء إلا من انعكاسٍ بشكلٍ ما لحياة مالك نفسها وعلاقته بوالديه.
أما على المستوى الشخصي، فبعد أن ارتبط اسمه وصديقه شادي حسين قبل أكثر من تسع سنوات بـ”فضيحة” مقطع الإساءة لأمناء الشرطة، الذي جُلِد مالك وحسين إعلاميًا بسببه وتعرّضا للتنكيل، يظهر مالك في الآونة الأخيرة أكثر انضباطًا ونضجًا في نفسه وحواراته. ويمكن للعين الخبيرة نفسيًا أن ترى الطريق الطويل الذي قطعه في رحلة علاجٍ وتقبُّلٍ لنفسه وما مرّ به من مشكلات أسرية. ففي لقائه مع أنس، يذكر بشجاعة من لا يهاب مجتمعًا يوصم العلاج النفسي أنه يخضع لجلسات علاجٍ نفسي ساعدته كثيرًا على إجابة سؤال “من أنا؟”. وكأن اختياره لفيلم «كولونيا» جزءٌ من رحلته العلاجية، محاولة لإيجاد السلام مع صدمات الطفولة، محاولة للتحرر. فهل تحرر مالك فعلًا بعد الفيلم؟

هل تحرّر مالك وتحرّرنا معه؟
وفقًا لتصريحات مالك نفسه، فالإجابة نعم على نصف السؤال الأول. كما ذكرنا سابقًا، صرّح مالك أن الفيلم ساعده على تفهُّم أبيه أكثر، وهو الأمر الذي كان يحاول تحقيقه منذ البداية بحسب تصريحاته مع أنس. أما عن النصف الثاني من السؤال، فالإجابة، مع شديد الأسف، لا. رغبة المخرج في الحديث عن كل شيء أدّت إلى تسرّب المشاعر الأساسية التي كان من المفترض أن تصل إلى المتلقي. ومن المؤسف أن يفشل فيلم غايته الأساسية إلقاء الضوء على مشكلات إساءة الآباء إلى الأبناء، وما يترتب عليها من تعقيدات في العلاقة بينهم، في أن يُلامس، وبالأخص لدى من تعرّضوا هم أنفسهم للإيذاء النفسي أو الجسدي من الأب، هذا الجانب العميق في نفوسهم.
على مستوى الكتابة، الفيلم ضعيف للغاية، والتورية التي حاول الكاتب/المخرج استخدامها تزيد من ارتباك المتلقي، حتى يجد نفسه يتساءل مرارًا: “هو أنا فين؟ وإيه اللي بيحصل؟” والحقيقة، لولا وجود مالك وأدائه الصادق والحقيقي، لما حقق الفيلم أي نجاح يُذكر أو لفت الأنظار إليه.
قد يُعزى ضعف الكتابة إلى أن المخرج لم يختبر فعليًا المشاعر التي حاول أن يصفها، أو ربما لأن العمل يُعَد تجربته الروائية الطويلة الأولى. لكن النقطة الأهم تبقى في المحاولة؛ فهذه المحاولات، والتجريب، والفشل، والتحسين، إلى جانب السعي لإيجاد موضوعات جديدة تكسر التابوهات المُحرَّم الحديث عنها، هي ما يمكن أن يدفع السينما المصرية إلى الأمام، رغم ما حققته مؤخرًا من تطور ملموس على مستوى الأفكار، إلا أنها لا تزال تفتقر إلى المعالجة المتماسكة والسيناريو المتقَن.
