قدم نفسك قربانًا للفن: امزج،

اصقل، انحت، وامض إلى أقصى الحدود!

جاهد، وفي العمل الذي يفتِك بك

-لوحةً كان، أو تمثالًا، أو قصيدةً-

ضع جوهرك، أعصابك، روحك كلها!

يا لها من مغامرة عقيمة عبثية!

فسيغدو ما تصنعه اليوم، بعد غد منسيًّا.

بهذه السخرية القاتمة، يخوض الشاعر الكولومبي خوسيه أسونسيون سيلفا (1865- 1896) في قصيدته «فلسفيات»، رحلة تأملية في أوهام الإنسان وسعيه المحموم خلف المعنى؛ فكل طريق إلى الخلاص، سواء عبر اللذة أو العمل أو الإيمان أو الفن، ينتهي إلى السراب. لا شيء يهب الخلود، وكل ما نظنه نجاتنا يتبدد في عالم محكوم باللاجدوى.

يُعد سيلفا المثل الأعلى لـ”أوسكار”، الشخصية الرئيسية في فيلم A Poet للمخرج سيمون ميسا سوتو، حيث يعلق صورته على جدار غرفته، ويتحدث عن تجربته في الحياة وانتحاره بإعجاب شديد. أوسكار هو الآخر شاعر تجاوز الخامسة والخمسين، أصدر ديوانين في التسعينيات ثم سكنه الصمت من وقتها. تخلّى عن كل شيء من أجل الكتابة، لكن في خضم بحثه عن صوته الخاص غرق في دوامة من الإحباطات وإدمان الكحوليات. لم يكرس حياته للعمل كما يسخر سيلفا، ولم يزهد في المجد والشهرة، بل علق في المنتصف تائهًا وتعيسًا، أسير حياة بوهيمية يُرثى لها.

قصيدة حزينة

في فيلمه الروائي الطويل الثاني، يصوغ سيمون ميسا سوتو عملًا يعكس مخاوفه وهواجسه تجاه صناعة الأفلام، وتمزقه المستمر بين الإخراج والتدريس وقلقه الدائم من المجهول. غير أن  سيمون الذي لم يبلغ الأربعين عامًا بعد، يختار أن يمنح بطله صوت شاعر لا مخرج، وكأنما ينقل أزمته الشخصية إلى مستوى أكثر تجريدًا. فالشعر، الذي فقد كثيرًا من بريقه في الوعي المعاصر مقارنة بالسينما، يتحول هنا إلى تجسيد للفنان في المطلق، وإلى مرآة تعكس مأزق العملية الإبداعية ذاتها.

لكن الفيلم ينأى عن الخطابة المباشرة، وينحو نحو دراسة دقيقة للشخصية بأسلوب يغلب عليه طابع الكوميديا السوداء، مقدمًا بورتريهًا لبطل ضد بكل تناقضاته وتعقيداته. يستفزك، وربما يدفعك إلى مقته، قبل أن ترى هشاشة روحه ونزاهة مبادئه فلا يسعك سوى التعاطف معه. يسلك مسارات خاطئة، ويصبح تعريفًا للفشل، لكنه يكرر في أكثر من موضع إنه يحاول حتى وإن ظل جهده غير كافٍ.

في المشاهد الأولى من الفيلم المقسم إلى أربعة فصول، نتعرف على أوسكار من خلال مونولوجاته الطويلة، التي تأتي حينًا في غير موضعها باستعراض الذات، وأحيانًا أخرى بغضب متقد تجاه العالم. تتضح شخصيته أيضًا في حواراته مع الآخرين، حيث تتشابك طباع الطفل الغاضب مع الرجل المشفق على حاله. يصرخ: “أنا شاعر!“، لكنه لا يستطيع إنكار شعوره بالخيبة وسوء الحظ، فالتساؤلات عن موهبته وحياته تلتهمه بلا رحمة. وفي لحظة صراحة، يقول: “كنت أظن أنني سأكون أفضل حالًا في هذا العمر“، فيرد عليه زميله الشاعر الأكثر نجاحًا، الذي يتباين تقديره له حسب الموقف، مشبهًا إياه بالقصيدة الحزينة.

لا نستمع إلى شعر أوسكار سوى قرب النهاية، عندها ندرك أنه كان يومًا يكتب عن الزهور، ورأى في إحداها صورة ابنته التي لم تولد بعد. كان ذلك قبل أن يقدس المعاناة، وتتملك ذهنه صورة الشاعر المعذب، المحاصر بين الرغبة في الخلق وضرورات البقاء، ليخسر كل شيء في النهاية، وينتهي به الحال مفلسًا، يقيم في بيت والدته.

ظهور “يورلادي” يهز عالم أوسكار، الطالبة التي يلتقيها صدفة بعد قبوله وظيفة المعلم على مضض. يكتشف موهبتها الفطرية، ويسعى إلى دفعها في المسار ذاته، لتحقق ما فشل هو في بلوغه. لكنها تسايره فقط بما يخدم حاجتها وحاجة عائلتها الفقيرة. فهي تحب الكتابة من بين أشياءً أخرى، غير إنها واقعية، ولن تطمح في الشعر إلا إذا ضمن لها حياة مستقرة وآمنة.  حتى أشعارها، التي تعكس تفاصيل حياتها اليومية، لا تغرق في كآبة زائفة، فتعيد أوسكار لمواجهة واقعه، وإدراك حجم أخطائه، قبل أن تنقلب الأمور ضده، ويجد نفسه متورطًا في اتهامات بسبب سذاجته وسوء تصرفه.

ومن خلال علاقتهما وتعقيدات منعطفاتها، يطرح سيمون تساؤلاته الوجودية حول جوهر الفن ودوافع ممارسته، متسائلًا إن كان الاحتراف فيه مقصورًا على الأثرياء. كما يوجه نقدًا لدوائر الدعم الفني الحديثة، التي تفرض أجندات فكرية تحد من حرية الإبداع، وتقننه بما يخدم جذب الرعاة، خصوصًا الرجل الأبيض أو المرأة البيضاء كما في حالة الفيلم، ممن يتعاملون مع الموهوبين من المجتمعات الفقيرة كنماذج استثنائية، بعيدًا عن فهم الواقع بصورة عميقة.

يتجلى التداخل بين الفن والمادة في صور متعددة، لعل أبرزها حضور الشعراء والكتاب على العملات النقدية، كما في حالة سيلفا وجابرييل جارسيا ماركيث. في مفارقة تجمع بين التقدير والعبث؛ إذ ينتهي من وهب حياته للبحث عن معنى يتجاوز المادي بأن يُختزل وجهه على ورقة نقدية، كأن المجتمع، في سعيه لتكريم رمزه الروحي، يحيله دون وعي إلى سلعة تحمل قيمة مالية. كما يتبدى هذا التداخل بوضوح في حفل مهرجان الشعر حين تلقي يورلادي قصيدة مصطنعة عن حيّها الفقير ولون بشرتها الداكن، فتظفر بإعجاب الحضور والممولين على السواء.

أفلام سيمون ميسا سوتو

صارت جوائز المهرجانات السينمائية موضع جدل متجدد، يتقاطع مع ما يقدمه فيلم A Poet من هجاء للأجندات الثقافية التي تحتفي أحيانًا بأعمال متواضعة لمجرد توافقها مع الصورة النمطية التي يرسمها الآخر عنا. لكن إحدى فضائل هذه الجوائز، حين تُمنح عن استحقاق، كما في حالة تتويج الفيلم بجائزة لجنة التحكيم في قسم “نظرة ما” بمهرجان كان السينمائي، أنها تتيح اكتشاف إنتاجات المخرجين السابقة وملاحظة الثيمات والمواضيع التي تثير اهتمامهم.

ينشغل سيمون ميسا سوتو بحكايات الشخصيات الضائعة والموصومة من مجتمعها. في فيلمه الأول Amparo، يقدم سردًا متأملًا لامرأة تكافح لتدبير المال ودفع رشوة تنقذ بها ابنها المراهق من التجنيد والإرسال إلى منطقة خطرة. في عيون عائلتها، تبدو الأم مثالًا للفشل: مطلقة، وأم لطفلين من أبوين مختلفين، تكابد لتأمين أبسط احتياجاتهما. توبخها والدتها وتصفها بإنها لا تعد قدوة حسنة، وتعجز عن تنشئتهما بشكل سليم.

يتردد صدى هذه الملامح في شخصية أوسكار وتفاعل المحيطين به معه؛ حيث يعجز عن تأسيس حياة أسرية مستقرة بجانب إخفاقه المهني. الفرق أن العمل الأول يفضح منظومة الفساد والسلطة الأبوية في الدولة، بينما يوجه الثاني سهامه نحو خواء الأوساط الثقافية والفنية. كذلك يختلفان في أسلوبهما الإخراجي؛ فالأول يعتمد على التوتر البطيء الذي يعكس قسوة الواقع وضيق الأفق، بينما يتبنى الثاني نبرة ساخرة وإيقاع سريع الوتيرة، أشبه بطبيعة بطله القلق والغاضب.

أما شخصية يورلادي في A Poet، تمتد جذورها إلى عالمين سبق أن نسجهما سيمون ميسا سوتو في فيلميه القصيرين Leidi وMother، حيث تتقاطع المراهقة مع الفقر والتيه. يرصد الأول، الحائز على السعفة الذهبية لأفضل فيلم قصير، رحلة أم شابة تجوب شوارع الأحياء المهمشة بحثًا عن والد طفلتها الذي يقضي وقته مع أخرى، بينما يتناول الثاني قصة مراهقة تقف على أعتاب عالم قاسٍ، تؤدي اختبارًا لدخول صناعة البورن. في هاتين التجربتين يميل سيمون إلى تأمل الواقع دون افتعال درامي أو استدرار للتعاطف. لكن عالم يورلادي في A Poet يظهر أكثر اكتمالًا ونبضًا بالحياة والوجوه والأصوات؛ حيث أضفى حضور عائلتها على الحكاية عمقًا اجتماعيًا وثقلاً إنسانيًا، دون أن يقع في فخ الشيطنة أو التنزيه.

تشترك الأفلام الأربعة في سمات واضحة: ممثلون غير محترفين، وميل لاستخدام كاميرا محمولة تتبع الشخصيات بحس واقعي، مع حضور دائم للأم في مقابل غياب الأب. في الأفلام الثلاثة الأولى، تبرز علاقة الأمومة في سرد الحكاية، بينما يسيرA Poet  في مسارين متوازيين: الأول، علاقة أوسكار بوالدته المسنّة، التي يُفتتَح الفيلم وينتهي بها، لتأطير هذه العلاقة وأثرها على حياته. حيث يظهر أوسكار أمامها كطفل عنيد ومتذمر، تواجهه أحيانًا بالواقع لتوقظه، وتحنو عليه حين تتلمس تعرضه للظلم.أما المسار الثاني، فيتجلى في علاقته بابنته “دانييلا”، التي تبدو الطرف الأكثر نضجًا في علاقة مقلوبة الأدوار؛ إذ تضطر للتعامل مع انسحابه وإخفاقاته المتتالية وبكائيته المستمرة، وحينما تحاول أن تضع حدودًا تحميها من الألم، يحاول هو أن يجد لنفسه أمًا ثانية.

الولع بالفن

حينما سُئل سيمون ميسا سوتو في مقابلة مصورة عن الأفلام التي تأثر بها أثناء عمله على الفيلم، رد باقتضاب Close Up الصادر عام 1990 للمخرج الإيراني عباس كيارستمي. والحقيقة لا غرابة في ذلك، فبين العملين تقاطعات واضحة. يروى فيلم Close Up قصة حسين سابزيان، الرجل العاطل الذي ينتحل صفة المخرج محسن مخملباف أمام أسرة متوسطة الحال، مستغلًا شغفهم بالسينما لإقناعهم بالمشاركة في فيلم وهمي والسماح بالتصوير داخل منزلهم.

خلال المحاكمة، يعترف سابزيان بخطئه، لكن يبرر فعلته بأنه متيم بحب السينما ومولع بالأفلام ويطالب بأن يؤخذ عشقه للفن بعين الاعتبار؛ ثم يضيف تفصيلاً لافتًا حين يشرح سبب تلقيه أموالًا من  أحد أفراد الأسرة، حيث يقول إن المخرج لا بد أن يمتلك مالًا، وأنه أراد التماهي مع الشخصية، لا العودة إلى واقعه الفقير المثقل بالمعاناة اليومية. هنا تتجلى هالة صورة الفنان، تلك التي يقدسها أوسكار في A Poet، ويتمسك بها رافضًا أن يكون سواها، حتى لو كان الثمن خسارة الكثير، وربما نفسه في النهاية.

أما من ناحية الأسلوب، يمزج فيلم كيارستمي بين الوثائقي والروائي، يسرد واقعة حقيقية ويستعين بالشخصيات المتورطة فيها، إلى جانب التصوير الحي لمشاهد المحاكمة، لكن في قالب سينمائي يضم مشاهد معاد تمثيلها وأخرى جديدة ويحمل في طيته سحر السينما التي تتجاوز الواقع.

أما فيلم A Poet، رغم كونه عملًا روائيًا، فإنه يستعير من جماليات الوثائقي، فيجعلنا نكاد نصدق أن أوسكار شخصية حقيقية بغرابة أطواره وفوضويته. تُرافقه الكاميرا المحمولة بأسلوب متحرر من التنميق، تقدم صورة خشنة ومباشرة، تحمل حسًّا واقعيًا أقرب إلى روح الهواة. يقطعها المونتاج الحاد كصفعات توقظ ذهن المشاهد وتحثه على تأمل ما يراه على الشاشة. كل ذلك يتجلى عبر أداء استثنائي من الممثل غير المحترف أوبيمار ريوس، الذي يقدم واحدًا من أكثر الأداءات حيوية وصدقًا هذا العام.

مشاركة: