لطالما كانت القاهرة، في السينما والتلفزيون، مدينة الأحلام للوافدين إليها، وأرض الشرور التي لا مكان فيها للبراءة والرهافة، كما نراها بعيون الشاب الحالم القادم من الريف في مسلسل «قهوة المحطة». لكن ثمة عالمًا آخر خارجها، لا يقلّ وحشة عنها، بل ربما يفوقها قسوة وظلمًا، عالمٌ يختبئ خلف الحقول الخضراء الآسرة، ويكشف عن وجهه القاتم شيئًا فشيئًا، كلما اقترب المرء منه أكثر. هذا ما يطرحه «ظلم المصطبة»، المسلسل الذي يواصل إرث الأعمال التي خرجت من عباءة القاهرة منذ بدايات التلفزيون، من الثلاثية المقتبسة عن «خماسية الساقية»، وصولًا إلى إنتاجات حديثة مثل «وش وضهر» و«بالطو». لكنه لا يكتفي بصراع الفرد مع مجتمعه، بل يغوص في تعقيدات العلاقات الأسرية، حين تتداخل المحبة والكراهية في صميم الأواصر العميقة.
تبدو حكاية ظلم المصطبة للوهلة الأولى بسيطة، لا تحمل عناصر جاذبة تلفت الانتباه، حيث تدور حول رجل يعود إلى قريته بعد سنوات من السجن في بلد آخر ليستعيد حقه من صديقي غربته اللذين تخليا عنه وتركاه لمصيره. وحين يبدأ البحث عنهما، يكتشف أن أحدهما لم يكتفِ بالمال، بل استغل غيابه وتزوج من حبيبته بعدما لفّق قصة جعلته خائنًا في نظرها.
حكايةٌ تستدعي أصداءً من الأدب العالمي وتحديدًا «الكونت دي مونت كريستو»، عُولجت في مواضع شتى وتغيرت وجوه أبطالها، لكن هنا نراها تنبض بنكهة مصرية خالصة، تزخر بتفاصيل دلتا النيل، وتنتمي بروحها إلى عالم مؤلفها المخرج أحمد فوزي صالح، الذي يُعدّ حجر الأساس في هذا المسلسل. صحيح أن العمل نفسه تشابكت عليه الأيادي حتى يخرج لنور؛ بين ملصق دعائي يحمل اسم هاني خليفة مخرجًا، وتتر يبرز اسم محمد علي، وفريق كتابة كبير بدأه السيناريست محمد رجاء قبل اعتذاره بعد الحلقات الأولى، مما يجعل من الصعب تمييز البصمة الإبداعية لكل طرف، إلا أن المنتج النهائي يظل امتدادًا طبيعيًا لمشروع صالح.
حكايات الأشقاء المُعقدة
تمتاز أعمال أحمد فوزي صالح بقدرتها على استكشاف بيئات ثرية لم تألفها العين، حيث تتداخل المواقع الحقيقية مع نسيج الحكاية، فتصبح بطلا من أبطالها. وسط هذه البيئات، تتحرك شخصيات مُركبة، إما تعيش على الهامش أو تنجح في الصعود منه إلى المتن حاملة آثار رحلتها معها. وفي عمق السرد، تتكرر ثيمة الأخوّة بتعقيداتها المختلفة، تلك العلاقة الضاربة في جذور التراث الإنساني منذ قابيل وهابيل.
في فيلمه الروائي الطويل الأول «ورد مسموم»، المقتبس عن رواية للكاتب أحمد زغلول الشيطي، يغوص صالح في أعماق رابطة الأخوّة حين تتجاوز حدودها المعتادة وتجنح إلى زنا المحارم. إذ لا ترى تحية (مريهان مجدي) في شقيقها صقر (إبراهيم النجاري) مجرد أخ، بل تعاملـه كزوج، تغار عليه بجنون، تحاصره، وتحيك المكائد لإبقائه قربها ومنعه من السفر. في أحد المشاهد، تبوح له قائلة: “مش عايزة غير تكحيلة عيني بك طلعة كل شمس”.
يتحرر الفيلم من الحبكة التقليدية، لينغمس في اختلال ميزان العلاقة بين الشقيقين، حيث يتحوّل حبها إلى لعنة تطارده، وكلما حاول الإفلات من أسر هذا التعلق المرضي، شدّت وثاقه أكثر. فوجود فتاة في حياته يعني خسارتها المطلقة، ورحيله يجرد أيامها من معناها. وهكذا، بينما تتمسك تحية بحقها في بقائه، يرى صقر في الهروب نجاته الوحيدة وإنصافًا لذاته واختياراته. كل هذا يتكشف وسط المدابغ الخشنة في قلب العاصمة، حيث التلوث لا ينهش المكان وحده، بل يتغلغل في العلاقات الإنسانية، مشوّهًا إياها بفعل الفقر وانسداد الأفق.
تخفت نبرة التعقيدات كثيرًا في فيلمه الوثائقي التالي «حكاية شادية وأختها سحر»، لكنه يظل وفيًا لعالم المنسيين. هذه المرة، يحكي عن شقيقتين تتشابهان في الظروف والأحلام؛ كلتاهما مطلقة، تتحمل مسؤولية تربية ابنة أو اثنتين وحدها بعدما تنصل الأب من دوره، وتطمح في توفير حياة أكثر استقرارًا للفتيات. منذ المشهد الافتتاحي، تتكشف ملامح شخصيتيهما وعلاقتهما المتأرجحة بين الحدة والاحتواء. شادية، الشقيقة الكبرى، تبدو أكثر انفعالًا، يثيرها أسلوب ابنة شقيقتها معها، فتقرر الرحيل رغم إلحاح سحر عليها بالبقاء. علاقة تشوبها لحظات شد وجذب، لكنها في جوهرها تقوم على المساندة، وكأن كلًّا منهما تتكئ على الأخرى في مواجهة الحياة وظلمها.
يتكرر مشهد اجتماعهن حول فيلم «يوم مر ويوم حلو» لخيري بشارة، حيث تتقاطع حكايته مع حياتهن، فهو يروي رحلة أرملة بسيطة تكافح وحدها لتربية أبنائها الخمسة، وتمضي في دروب الحياة الوعرة دون أن تفقد الأمل. فيلم لطالما أشار صالح إلى تأثره به، ويمكن استحضاره مجددًا عند الحديث عن «ظلم المصطبة».
لكن قبل الانتقال إليه، لا بد من التوقف عند مسلسل «بطن الحوت» الذي تتشابك داخله خيوط الأخوة المعقدة مع عالم تجارة المخدرات، في قلب مصر القديمة. يتناول العمل حكاية الشقيقين، هلال (باسم سمرة) وضياء (محمد فراج)، اللذين سلك كل منهما مسارًا مختلفًا في الحياة. هلال، الصلب المتحكم، انجرف مبكرًا إلى عالم المخدرات، بينما ضياء، اللين المتعاطف، مرّ بفترة تخبط قبل أن يجد ملاذه في صناعة الفخار، مستظلًا برداء الإيمان، بعيدًا عن مآلات أفعال أخيه. ورغم المسافات، يبقى هلال في محاولة دائمة لاستعادته وإبقائه عونًا، بينما يحمل ضياء في داخله غيرة دفينة، ناجمة عن إحساسه بأن والدته تقسو عليه، وتفضل أخاه وتبارك سلطته.
تزداد العلاقة تأزمًا مع دخول هلال السجن وحلول ضياء مكانه في العمل، حيث تظهر تناقضات الشخصيتين وجوانبهما الخفية. يستولى ضياء على كل شيء، المخدرات وزوجة هلال، ويستخدم جماعته الدينية في صراعاته مع أعدائه. فيما يخرج هلال مثقلًا بالانتقام، عازمًا على استعادة ما سُلب منه، بما في ذلك ابنته التي طالما حال بينهما جدار من الجفاء.
باختصار، هي علاقة أخوة تمزقها صراعات الحب والسلطة والسعي وراء عدالة شخصية، وهي ذات التوترات التي تتجلى بوضوح وبصورة أكثر تماسكًا في «ظلم المصطبة» سواء بين شخصياته الثلاث الرئيسية أو في العلاقات الأخوية التي ينسجها المسلسل.
الأخوة ساحة صراع
غالبًا ما تُصوَّر المجتمعات خارج العاصمة بوصفها أكثر ترابطًا، حيث تذوب الفردانية في قوة الجماعة، التي تفرض أعرافها وقوانينها الخاصة، أحيانًا بما يفوق سطوة القانون الرسمي. يمنحنا «ظلم المصطبة»، مساحة للتأمل في هذه الروابط وتفكيك تعقيداتها، عبر اختياره مدينة دمنهور مسرحًا للأحداث، وارتكازه على ثلاث عائلات تشكّل أضلاع مثلث الصراع الأساسي: عائلة هند (ريهام عبد الغفور)، عائلة حمادة (فتحي عبد الوهاب)، وعائلة حسن (إياد نصار). لكن الصدامات لا تقتصر على العائلات، بل تمتد إلى الداخل، حيث تشتعل صراعات بين الإخوة، تعكس جراحًا نفسية وأزمات اجتماعية تترك بصمتها على مسار الدراما.
يبدو الصراع داخل عائلة هند وأشقائها الثلاثة الأشد تعقيدًا، ليس فقط لأنه محمل بإرث الماضي، بل لأن جراحه لم تلتئم أبدًا. فقد أحبّت هند خطيب شقيقتها الكبرى إلهام، وهربت معه ليلة العرس، تاركة وراءها أسرة يمزقها الألم والفضيحة. ورغم أنها دفعت الثمن بحرمانها من الميراث، واضطرارها للزواج بما يخدم نفوذ العائلة، إلا أن خطيئتها لم تغتفر. ظل شقيقاها الأكبران يعاملانها بجفاء، ولم تنل أي تعاطف منهما مع تورطها في فعل مماثل جديد. فبالنسبة لهما، هي ليست سوى فتاة طائشة لا تحسب عواقب أفعالها. حتى شقيقتها الصغرى، التي كانت في صفها، تخلّت عنها حينما امتد تأثير أفعال هند إلى حياتها وزواجها ممن تحب.
تتلاقى هند في طيشها واندفاعها مع شخصية لمياء (سيمون) في فيلم «يوم مر ويوم حلو»، فهي أيضًا أحبت زوج شقيقتها الأكبر وتورطت في علاقة معه، وبعدما أشعلت النار في جسدها تكفيرًا عن فعلتها، لم نرها في اللقطات الأخيرة للفيلم وكأن وجودها وسط هذه العائلة لم يعد ممكنًا.
أما في عائلة حمادة كشري، التي انتقلت من العيش على هامش البلد إلى مرتبة الجاه والنفوذ بفعل المال والدين، يتجلى الصراع بين الأخوة الثلاث في لعبة السلطة. فحمادة الأخ الأكبر الذي لم يُكمل تعليمه، أعاد رسم مصير العائلة بفضل أموال التهريب التي جمعها في الخارج حيث أقام مركزًا تجاريًا ضخمًا، وشيد بيتًا كبيرًا يجمعه وشقيقيه، لا ليربط العائلة بعقد لا ينفرط فحسب، بل ليكرس سطوته عليهما. لكن الامتثال لأوامره ليس خيارًا سهلًا، خاصة على شقيقه علاء، الشيخ الذي تقاطع معه في مصلحة متبادلة؛ فحمادة احتاج غطاءً دينيًا لشرعنة أفعاله، وعلاء احتاج الثراء والقوة، غير أن ما كان ضرورة مشتركة بالأمس، صار عبئًا يخنقه اليوم. أما سحر، التي ترى أن حياتها وزواجها وحتى مدينتها تدور في فلك حمادة، تضيق بالخضوع وتسعى لتحرير نفسها من تلك القيود. وبينما تبدو علاقتهم الثلاث أكثر تماسكًا مما هي عليه في عائلة هند، تبقى مشاعرهم متأرجحة بين الولاء والتبرم، بين الحب ورغبة مستترة في الانفلات.
كذلك، لا تخلو علاقة حسن بشقيقته عبير من توتر ومنغصات. فظل استياءٌ معلقٌ في الأفق من حسن القديم، ذاك الشاب المتهور الأناني الذي اختار هند على شقيقتها وهرب معها. وضيق من الأخ الذي سافر واختفى لسنوات، بينما حالت الظروف دون رجوعه. لكن الأهم هو غضبها من العائد، الذي لم يكتفِ بإرباك حياتها واستقرار زواجها، بل جرّها إلى أزمات أعمق انتهت بطردها من بيتها. وهكذا، تبقى عبير ممزقة بين محبتها لأخيها وضجرها من أفعاله، خاصة بعدما طالت تداعياتها حياتها وسلامتها الشخصية.
ترسم قصة أحمد فوزي صالح، والسيناريو الذي تشارك في تطويره عدد من الكُتاب، عالماً من الشخصيات الرمادية التي تتلون وفق المصالح والأهواء، ويتجسد صراعها في أداء تمثيلي آسِر من الجميع. كل منها يحمل ندوبًا من ظلم عايشه، ويطمح في عدالة يراها حقه، لكنه في الوقت ذاته يمارس الظلم أو يتغاضى عنه خشية المواجهة أو فقدان الامتيازات. فعندما يغيب القانون، وتحل محله الأعراف السائدة والأحكام القبلية، يصبح فساد العلاقات الحميمية حتمياً، فلا يبقى للجميع سوى انتظار عدالة بعيد المنال.
تحليل وافي جدا ..وان كان تركز على المضمون..والعناصر الفنية احتاجت منك لتحليل مماثل لأنها الجسر الذي نقل إلينا مل هذه الصراعات المستندة على تحليل اجتماعي ينقل الخاص إلى العان.