من المؤكد أن الحياة تمنحنا بعض الحكايات لتكون مفاتيح نتمكن من خلالها من فهم أنفسنا بشكل أعمق. وهنا نلتمس القرب بين جزيرة جيجو، صاحبة الأمواج التي لا تهدأ، وشوارع القاهرة التي تزداد ازدحامًا عامًا بعد عام، لنجد حكايتين لامرأتين من عالمين مختلفين، ولكنهما تشتركان في جرحٍ واحد.

نساء عاديات نلتمس من خلالهن ذاكرة جيل من القهر والمقاومة، في المسلسل الكوري «عندما تمنحك الحياة ثمار اليوسفي»، والمصري «بنت اسمها ذات». يطرح العملان السؤال ذاته: ماذا يعني أن تولدي امرأة في مجتمع أبوي لا يراكِ إلا انعكاسًا لاحتياجاته؟

لكن الفارق يكمن في طريقة كتابة الأمومة، كحالة ووراثة وصراع، بين أم “ذات” التي تتبنى أدوات القمع المجتمعية ذاتها، وأم “آي سون” التي تحلم بكسر السلسلة وفتح باب العالم لابنتها. هكذا، يصبح الجرح إما إرثًا مسمومًا، أو نقطة بداية لشفاء بطيء.

المسلسل بطولة أي يو، بارك بو جوم، مون سو ري، بارك هاي جون، يوم هي ران، تأليف  ليم سانج تشون، وإخراج كيم وون سيوك، وحقق أعلى تقييم لمسلسل كوري على موقع IMDB.

جيجو مقابل القاهرة

ترى شيرين أبو النجا في كتابها «رحم العالم: أمومة عابرة للحدود» أن المكان عنصر رئيسي في صياغة حياة النساء، معلّقة على أن الطبقة تحافظ على قوتها وشراستها بشكل أوضح وأقوى في المدينة، بخلاف الريف الذي تتأقلم فيه مع أوضاع مغايرة. الأمر نفسه نراه بوضوح بين جيجو والقاهرة، فرغم أنهما لا تلتقيان على خريطة واحدة، إلا أنهما تظهران في كلا العملين بوصفهما مكانًا يشهد على الذاكرة الجماعية التي تتوارثها النساء جيلًا بعد جيل، ليس فقط بصورة جغرافية، وإنما باعتباره حيّزًا يختبر حدود العادات وقدر الحريات.

تبدأ أحداث المسلسل في خمسينيات القرن العشرين بجزيرة جيجو، التي تبعد مسافة كبيرة عن العاصمة الكورية سيول. كان على كلٍّ من النساء والرجال أن يعملوا في جزيرة جيجو لمواكبة آثار الاحتلال الياباني، وما خلفه من فقر في البلاد. في تلك الأثناء، عملت غالبية النساء في الغوص من أجل اصطياد القواقع وبعض الكائنات البحرية مثل الأخطبوط، لبيعها لاحقًا في السوق بعد تنظيفها، وقليل منهن يطبخن منها لأسرهن. في حين عمل الرجال على مراكب الصيد إمّا في اصطياد الأسماك أو بحمل ما هو ثقيل.

تعلمت النساء من البحر الصبر والتحمل والغوص في المجهول نفسيًا وفعليًا. فرغم معاناتهن من أمراض في التنفس والقلب، وفقدان إحداهن في الماء، إلا أنهن استمررن في محاولة الحلم والتمسّك بمستقبل أفضل لابنة “جيون جونج ري”، التي قامت بدورها يوم هي ران، وبسببه حصلت على جائزة أفضل ممثلة دور صاعد. فالأم هنا حاولت أن تجعل ابنتها “أو آه صن” تكمل تعليمها، وحثّتها على عدم خدمة أخواتها، وألا تضيع وقتها في رعايتهم مهما كانت الظروف. وشجعتها زميلاتها الغواصات على الأمر نفسه. كل غطسة كانت تحمل فعل مقاومة ضد مركزية العاصمة وسلطتها الأبوية، فكلما كانت طبقتك الاجتماعية أعلى، كانت قيودك الاجتماعية أقوى.

القاهرة الستينية في مسلسل «بنت اسمها ذات» للمخرجة كاملة أبو ذكري كانت المقابل، رغم كونها عاصمة مزدحمة، إلا أنها مشحونة بعلاقات وسلطة ذكورية، حتى من النساء أنفسهن، حيث تُقاس قيمة المرأة بمدى انصياعها لمعايير الشرف والمظهر والتوقعات العائلية.

فعندما كانت ذات في مرحلة المراهقة، وبسبب رسالة غرامية كتبها صديق شقيقها، ظن والدها أن أخلاقها فسدت، فساعدته الأم على الانتقام بضربها تحت مقولة “اكسر للبنت ضلع”.

تتحول الأم، التي قامت بدورها انتصار، منذ نشأة ذات لإعادة إنتاج نفس القيم الذكورية داخل المنزل، وتصبح القاهرة نفسها امتدادًا للبيت الضيق، وإعادة تدوير لأشكال القمع بحسب المرحلة الزمنية وتبدل الشعارات السياسية

توريث الجروح وبترها

قد يظن البعض أن الجروح أمر شخصي، يمر به فرد واحد، وعليه أن يعالج هذا الجرح أو يتكيف مع درجة الألم، ولكن في حقيقة الأمر الجروح أمر وراثي، مثلها مثل الجينات. تخيل أن نصيب النساء من الميراث هو أطنان من الألم والخيبات تنتقل من جيل إلى جيل.

هذا الإرث ينتقل في صورة تربية تتحمل الأم عائقها، ليكون السؤال: هل أحافظ على ابنتي بإعادة إنتاج نفس الطقوس التي مررت بها؟ أم أسمح لها بكسر القاعدة، لعل حياتها تكون أفضل؟

في «بنت اسمها ذات»، تختزل كاملة أبو ذكري هذا الصراع في عدد من المشاهد، وأهمها مشهد “الختان”. فقد أصرت الأم على ختان ابنتها الطفلة رغم رفض زوجها، ظنًا منها أنها تحافظ بذلك على شرف الابنة في المستقبل.

الحفاظ على الشرف هو في جوهره عنف موجه للجسد الأنثوي منذ نعومة أظافره. يصور المشهد شعور الأم العميق بالخوف من صدها للقيم الاجتماعية، فهي ترفض الاستماع لصديقتها وتصر على الختان. ليتحول الجرح الشخصي الذي سبق وأن مرت به إلى قاعدة اجتماعية تُطبق بحذافيرها، بحيث يصبح إعادة توريث الألم ضمانة للنجاة.

على الجانب الآخر من الكون، نرى الأم “أو آه صن”، التي قامت بدورها إي يو، ترفض كليًا ضغط جدة زوجها عليها لكي تُمارس طفلتها الغطس وتترك التعليم، بحجة أن الغطس هو مصير كل النساء، فهو الطريق الوحيد الذي عرفته النساء في العائلة لكسب الرزق. لكنها تصمم على ألا تلمس ابنتها الماء بالغطس، معللة بأن والدتها نفسها رفضت كليًا أن تجعلها هي الأخرى تنزل إلى الماء للغطس عندما كانت طفلة، بل شجعتها على التعليم، وهي سوف تفعل المثل.

نرى هنا صورة مختلفة من توظيف الألم عن طريق بتره، فوالدة “أو آه صن” لم ترد لابنتها أن تذوق هذا العذاب، أن تستمر في الحياة كبقرة داخل جزيرة جيجو. فقد سبق وأن أخبرت ابنتها: “أن تكوني بقرة هو أفضل من أن تولدي كسيدة في جزيرة جيجو”. فمثلًا، عندما تفشل علاقة حب، تتحمل الفتاة وحدها الذنب، في حين يُصور الأمر عند الشاب على أنه نزوة رجولية لا بأس بها، ولكن عليه أن يختار زوجة شريفة.

سماح الأم لابنتها بركوب الدراجة هو فعل بتر رمزي لجرح جماعي. هنا تقرر الأم الانفصال عن سلسلة الألم المتوارثة، ليس فقط عائليًا، بل مجتمعيًا، حتى لا يتكرر الجرح. في القاهرة، الأم أسيرة منظومة ذكورية تعيد إنتاج القمع باسم الشرف والعادات، لكن في جيجو، تعي الأم ثمن الألم فتختار أن تكون الدرع الذي يصد الجروح عن عزيزتها.

الذكورة والإبوة والإنصاف

تتجلى الذكورة كمنظومة قيم لا كصفة بيولوجية في كل من “عندما تعطيك الحياة ثمار اليوسفي” و”بنت اسمها ذات”. فقد عنف والد “ذات” ابنته عندما شك في علاقتها بزميل دراستها، لكنه في الوقت نفسه كان ضد ختانها وضد أن تتزوج قبل إتمام دراستها. إلا أن الضغط الذكوري المجتمعي، المتمثل في الأم وشك عبد المجيد، جعله يرضخ للأمر. الأب، الذي قام بدوره أحمد كمال، ليس شريرًا أو جلادًا ساديًا، لكنه غير قادر وحده على الخروج من الدائرة المجتمعية المقيدة التي يعيش فيها، خاصةً أننا نتحدث عن جيل النكبة والشعور بقسوة وهشاشة العالم الخارجي، مما يجعله مضطرًا لإثبات قوته وسلطته داخل منزله.

صورة الرجل الشرقي، كما يقول الكتاب، تتجسد في شخصية عبد المجيد أوفكورس، الذي قام بدوره باسم سمرة. هنا لا أتحدث عن الأمر بصورة سلبية، بل عن الرجل العادي الذي يحمل طموحات لكنه مجبر على العيش في ظروف أدنى، وشخصية أكثر حزماً. كان حب عبد المجيد لـ”ذات” مختلطاً بالخوف من فقدانها وفقدان ذاته، لذا كان سلطويًا بطريقة تقليدية جدًا. تحطيمه لماكينة الخياطة بعد الزواج، مراقبته لها في الجامعة، واشتراطه زواجها وترك التعليم، كلها تصرفات ليست شرًا مطلقًا، بل تعبير عن إحباط اقتصادي وتدهور في طموحاته. هو رجل يحب ابنته، لكنه في الوقت نفسه محاصر تحت وطأة سلطة صارمة تحكم مصيره.

 يانج جوان سيك، الذي قام بدوره بارك بو جوم، هو نقيض نموذجي لوالد وزوج “ذات”، يجسد أبوة تشاركية لا وصائية. منذ صغره، شهد الظلم الذي وقع على حبيبته عندما فصلتها المدرسة، فاختار ترك التعليم تضامنًا معها، ليس كقرار عفوي بل كفعل أخلاقي. وعندما كبرت، شجعها على كتابة روايتها الأولى وتحقيق حلمها. رغم اعتراض والدته وجدته على زواجه من فتاة منبوذة اجتماعيًا بلا أب أو أم، أصر على الارتباط بها ودافع عنها أمام العائلة والتقاليد، بل تخلى عن حلمه بالمشاركة في الرياضة ليعمل صيادًا حتى يتمكن من الزواج منها.

تزهر النساء مثل الورود حين يجدن شريكًا حقيقيًا يتقاسم معهن فواجع الأقدار وقسوة الأيام. لام عبد المجيد زوجته ذات على تربيتها لابنتهم حين تم اعتقالها، ففي هذه المنظومة تكون الأم أول من تُلام على التربية، فهي حافظة التقاليد، وممررة العادات. لكن يانج حضن زوجته، وتفهم حزنها وصمتها عند فقدانهم لطفلهم الذي غرق في البحر. الألم هنا مشترك، والمسؤولية مقسمة. قد تكون هذه الحلقة من أقسى حلقات المسلسل، إذ تنتقل القسوة وفجاعة الخبر إلينا دون بهرجة بصرية، فقط سماء ضبابية، أصوات أمواج متلاطمة، ألوان باهتة، وهمسات خفيفة من أهل القرية. لكن حتى في أشد اللحظات قسوة، لم تعنفها حماتها مطلقًا، إذ أدركت فجاعة الموقف وعمق ألم الأم. فحتى أشد الناس لؤمًا قد يتحلون بالرحمة في مواقف معينة.

الصوت المفقود للحكي

تجريد المرأة من صوتها في المجتمعات العربية لا يزال واقعًا مؤلمًا؛ فهي تُعتبر سرًا يجب أن يبقى مخفيًا وعورة يجب طمسها ومحوها. لكن في «بنت اسمها ذات» استطاعت ذات أن تستعيد صوتها وتعبر عن أفكارها، مخاوفها، حماسها، حبها، وخذلانها. جاء ذلك من خلال صوت الراوي الذي منحها فرصة لتشارك جمهور المسلسل مشاعرها، مما جذب التعاطف في مشاهد، وأثار القلق والخوف عليها في مشاهد أخرى.

امتلكت ذات صوتًا تستطيع من خلاله سرد قصتها، قصتها العادية. فالصوت ليس فقط ما يُقال، بل متى يُقال، ومن يملكه. يظهر الحكي هنا كمعركة مؤجلة، لا تنتصر فيها النساء في الزمن الحقيقي، لكن عليهن صياغته لاحقًا في الذاكرة، عبر القصّ أو الكتابة.

الكتابة هنا اخص بها “أو أه صن” التي لجأت لكتابة روايتها الأولى عن حكايتها الخاصة وهي جدة كبيرة في العمر، لتحكي عن حياتها مع والدتها، وطفولتها، وما تعرضت له من تمييز وعنف بوصفها فتاة، ثم كيف احتواها حبيبها وجعلها تبتر الألم، ساندها لكي تُلقي بكل العادات والموروثات بعيدًا، حتى أصبحت أول سيدة تحتل منصب العمدة في القرية الذكورية، واستطاعت تربية ابنتها وابنها بحب، بل وفعلت ما هو أكثر من أجل الابنة، حيث قامت ببيع منزلهم من أجل إرسالها لتكمل تعليمها في اليابان. لم تخضع “أو” لصوت الجماعة، بل صدقت صوتها الخاص، ورفعته في أذن الجميع، رفضت أن تكون بقرة، وقطعت طريقها بعيدا عن فكر المواشي المهيمن، فنحن لا نرث الألم فقط، بل نرث أيضا قدرة على تجاوزه وتحرير النفس.

مشاركة: