برادي كوربيت، بالتعاون مع مونا فاستفولد (التي شاركت في كتابة كل نصوصه، سواء التي أخرجها هو أو التي أخرجتها هي)، يصنعان فيلمًا عن كل شيء واللاشيء في الآن ذاته. يتغافلان عن جزء مهم من الحكاية لصالح القفز المرن على كل شيء، حتى دوافع الشخصيات التي تظل مجهولة، والأحداث تحدث لأنها ستحدث، لا لأنها مبررة دراميًا أو مقنعة. وبدلًا من صناعة قطعة فنية بديعة يتحول فيها الفن إلى مرآة يستطيع كلٌّ منا أن يرى نفسه بحق في شخوصها وما يخالجهم من ألم وندم، تصبح مرآة معتمة يملؤها الصدوع والخدوش، لا ترى فيها غير صورة باهتة تنساها بمجرد أن تلتفت عنها، فتتلاشى من ذاكرتك في لحظات.

حكاية المهاجر الواعدة

يبدأ الفيلم بمشهد يتم التحقيق فيه مع “زوفيا” ابنة أخت “لازلو”، تجلس الفتاة صامتة، غير قادرة على الحديث، تستمع إلى أسئلة المحققين بينما ترتجف. ثم ينتقل بنا كوربيت إلى لازلو، وهو محاط في الظلام ويغمره التوتر والخوف. نظل نتتبعه في لقطة طويلة بلا أي قطع، تنجح في وضعنا معه داخل إطار من القلق والتيه وترقّب لما سيحدث وما يخبئه المستقبل. نظل في الظلام حتى يصعد لازلو أدراج السفينة إلى سطحها، لينعم بشمس الحرية الأمريكية المسلطة على تمثالها ورمزها الأشهر.

يضع لازلو أولى خطواته في نيويورك في ماخور، ولكن سرعان ما يظهر لنا عجزه الجنسي كدلالة على أن هذا الرجل كُسِر بطريقة ما في معسكرات الاعتقال النازية. وأثناء ذلك، ينتقد جبهة المرأة ويصفها بالمعيبة، ليخرج روح المعماري بداخله، والذي يبحث عن تناسق وجمالية في كل شيء.

كانت تلك افتتاحية رائعة وتمهيدًا للفصل الأول الذي يتناول سنواته الأولى بأمريكا، والذي يبدأ فعليًا بتوجه لازلو لأحد أقربائه في ولاية بنسلفانيا، والذي سبقه للهجرة منذ عشر سنوات واستطاع الانخراط في نسيج المجتمع الأمريكي، مغيرًا اسمه من “مولنار” إلى “ميلر”، ثم مغيرًا معتقده ليصبح كاثوليكيًا كزوجته.

من هنا تبدأ ملامح الحكاية في الظهور، حيث امتعاض لازلو من هذا التغيير، وبهذا فنحن لا نتحدث عن قصة صعود مهاجرٍ تخالجه خواطر الحلم الأمريكي التقليدية، بل جوهر الحكاية عن شخص يحاول أن يتمسك بهويته، ممتعضًا من كل مظاهر الانسلاخ. شخصية لازلو غنية يمكن البناء عليها بسهولة، فهو مهاجر يصارع مشاعره المختلطة بين حنينه لقومه ووطنه وبين رغبته في بداية جديدة. معماري بدرجة فنان، ولكنه مدمن على المخدرات ويفكر في آلاف الأميال التي تفصله عن زوجته.

إن كبرياء لازلو مركّب؛ فمثلًا يرفض أن يتناول الغذاء لدى ابن عمه، ولكنه يقف في طابور المشردين لساعات في مقابل وجبة طعام، فالكبرياء يتعلق بمظهره أمام قومه فقط، أن يظل صلبًا شامخًا بينهم. ولاعتزازه بنفسه أوجه أخرى، حيث يرضى بمسكن هزيل ووظيفة متواضعة لأنه عمل عائلي، بينما يرفض رفضًا قاطعًا العمل لدى أي أحد.

لازلو يفقد ذاته

يبدأ عالم الفيلم في السقوط ليغرق في بحر لا شاطئ له، فمع نهاية الفصل الأول وبداية الثاني (حيث يقسم كوربيت فيلمه لفصول معنونة)، تصبح كل الأشياء ممكنة، حيث لا يوجد مبرر كافٍ – بل تغيب كليًا أحيانًا – لفهم دوافع الشخصيات وأفعالها.

هذا البنيان الجميل والمحكم والقوي، الذي يشبه أعمال لازلو في تماسكها وأناقتها، سرعان ما يتهاوى كلما تقدمنا في القصة، لتتساقط حوائط وتتبدل أخرى، لينتج عنه مبنى غير مكتمل، أو للدقة: بناء خلّاب جدًا من الخارج بينما أجوف وفوضوي من الداخل. وهذه الجمالية المتكلفة على مستوى الصورة، سواء من تصميم إنتاج خلّاب أو تصوير بديع، هي التي ضمنت، بل حققت له جوائز عدة، وهي بكل تأكيد أحد أسباب مكانة الفيلم المرتفعة وشهرته، ولكن في النهاية، ورغم بريقها، إذا حدقت بها كفاية ستجدها فارغة.

فعلى سبيل المثال، ينقلب ميلر على لازلو متهمًا إياه بأنه المتسبب في المشكلة التي واجهتهم مع هاريسون لي ورفض ابنه هاري الدفع لهم، وهو اتهام غير منطقي بالمرة، ولكنه يحدث – كما يتكرر ذلك كثيرًا طوال الفيلم – من أجل دفع الحبكة لا أكثر، وكزوجة ميلر التي تغازل لازلو بلا أي سبب واضح، ثم تتسبب في طرده باتهامه كذبًا بأنه حاول مغازلتها.

في قصة صعود لازلو لا يكون النجاح قائمًا على تحقيق الذات، بل على التخلي عنها. فمع قبول لازلو العمل لدى “هاريسون لي” لتصميم مجمّع ضخم يُصبح رمزًا للمدينة وجامعًا لسكانها، يبدأ في المواءمات. فرغم عدم اقتناعه بوضع مصلى مسيحي في مكان من المفترض أن يحتضن جميع سكان المدينة على اختلافاتهم، فإنه يقبل بذلك على مضض.

ولأن كوربيت لا يضع عينه إلا على مشهد النهاية، تضيع من بين يديه العديد من الفرص لاغتنامها. فبدلًا من أن يخلق صراعًا داخليًا للازلو بين ما يرفضه وما يقبله عنوة، يسلط الضوء فقط على امتعاضه من مظاهر الانسلاخ من الماضي، وأي محاولة للانصهار في المجتمع الأمريكي، رغم أن بناءه لذلك الصرح يُعد أولى محاولاته الفعلية لذلك الاندماج وتبنّي هذا الانتماء الجديد!

يمتعض من زوجته حين تقترح أن يناديها هاريسون بـ”إليزابيث”، ويصر على مناداة ابنة أخته بـ”زوفيا” لا “صوفيا”، ورغم ذلك يقبل مزحة سخيفة بها إهانة مبطنة، بل ويقبل أن يلتقط عملة من الأرض ألقاها هاريسون. بإمكاننا أن نرى في ذلك “أنا” متفجرة، لا يرى صاحبها تصرفاته ولكن يقف بالمرصاد ليحاكم الآخرين. لكن نص كوربيت وفاستفولد لم يحاول تسليط الضوء على تلك النقطة، إذ لا يهتم ببناء أي صراعات داخلية أو دوافع للشخصيات. حتى اختفاء هاريسون جاء في مشهد غاية في التكلف والتصنّع. هدفه الوحيد إبراز السراديب والممرات بين المباني الأربعة.

كل شيء يحدث لا لسبب، بل لغرض!

المشكلة لا تكمن فقط في عدم استثمار تلك الصراعات، وبالتالي جعلها بلا قيمة، بل في أن الأفعال والدوافع تصبح منعدمة إلى حد التناقض. فهاريسون، تارةً، يتودد إلى زوجة لازلو ويحاول توفير مساحة للسفر معها بعيدًا عن زوجها، وتارةً أخرى نراه يقوم باعتداء جنسي—كرمزية مباشرة ومبتذلة—على لازلو نفسه.

يرفض لازلو تعديل تصميمه، بل يقرر، في سبيل إنقاذه، أن يضحّي بمستحقاته. وهي مستحقات لا نعرف قيمتها، وحتى لو كانت كبيرة، فهل تكفي فعلًا لتحمّل تغيير جوهري ومكلف في البناء؟ في البداية، نفهم أن دافعه وغضبه نابعان من “أنا” الفنان داخله، الذي يرفض تدخل أي أحد في عمله. لكن مع مشهد النهاية الميلودرامي، نفهم أن تمسكه لم يكن فقط فنيًا، بل لأن التصميم ذاته يحاكي سجون معسكرات الاعتقال النازية.

هذه المعلومة الجوهرية لم تُلمّح في أي لحظة سابقة، ولم نرَ انعكاسها على شغفه، ألمه، أو حتى عملية الاستلهام أثناء رسمه. كما أن تصميمه، الذي يضيف نفقات غير مبررة في عدة جوانب—كأنفاق لا جدوى لها (والتي نفهم مغزاها لاحقًا)—لم يُواجه باعتراض حقيقي، مع أنه كان من الممكن أن يكون محور صراع قوي وذو مغزى، يكشف لنا إيمانه العميق بفكرة يدافع عنها من قلبه. لكن هذا لم يحدث أيضًا. بل إن تلك الجزئية الخاصة بالتصميم لم تظهر على الشاشة إلا لحظات عابرة، وهو ما ينقلنا إلى نقطة ثانية، وأكثر أهمية…

إذا كان الفيلم، منذ بدايته، لم يهتم بصناعة دراما حقيقية تحكي قصة معماري فريد وما يتعلق بجوانب عمله، ولم يكترث لتسليط الضوء على صراعات المهاجر الداخلية لخلق دراما منها، ولم يسعَ لتبرير أفعال شخصياته الغريبة والمتناقضة أحيانًا، فماذا كانت غاية كوربيت إذًا؟ وماذا ربح في مقابل كل هذه الخسارات؟

لا بد أن نتحدث عن السينما قليلًا

من حق جميع الفنانين أن يرووا القصص التي تلامس وجدانهم، سواء اتفقنا معها أو أحببناها أو لا. لكن ما يثير التأمل حقًا هو محاولة كوربيت تسويق قصته، كما صرّح في حواره مع Hollywood Reporters:

يدور الفيلم حول كيفية سير التجربة الفنية مع تجربة الهجرة جنبًا إلى جنب، وهو ما يعني أنه بشكل عام، إذا انتقل شخص إلى بلدة في الضواحي بأمريكا ولم يكن يشبه الآخرين، سواء بسبب لون بشرته أو معتقداته أو تقاليده، فإن الجميع يريدونه أن… يرحل”

محاولة كوربيت – كما يدّعي – لتسليط الضوء على العنصرية وثقافة عدم القبول التي يواجهها المهاجرون عند سعيهم للانصهار داخل مجتمعات جديدة، سرعان ما تنبذهم وتلفظهم، تبدو غير منطقية… وربما تحمل شيئًا من التزييف!

فـ”لازلو” كان يحظى بالإشادة والرعاية، بل بالثناء والتكريم في أحيان كثيرة، والمواقف التي عومل فيها بازدراء كانت قليلة، لا تُقارن بفئات أخرى كان من الممكن أن ينقل كوربيت حكايتها لو كان هذا هو غرضه فعلاً.

كان بإمكانه تسليط الضوء على فكرة النبذ بصورة أوضح من خلال شخصيات أكثر هشاشة، أو في ظروف أكثر قسوة. بل إن المواقف التي شعر فيها لازلو بالمهانة يمكن قراءتها بسهولة ضمن سياقات طبقية بسهولة، عجرفة رأسمالية لا تبالي إلا لمصلحتها الشخصية فقط، يتفق هذا الحديث مع المعمارين الذين رأوا أن الفيلم يبالغ في تصوير معاناة المعمارين اليهود الذين قدموا لأمريكا وحققوا العديد من الإنجازات:

تعرض الفيلم لانتقادات شديدة من بعض المعماريين لكونه غير واقعي. فقد أشاروا إلى أن هؤلاء المعماريين اليهود تحديدًا، الذين جاءوا إلى الولايات المتحدة، حققوا مسيرات مهنية ناجحة للغاية، وتقلدوا مناصب كبرى في الجامعات، وساهموا في تشكيل القرن التالي من العمارة الحديثة، ولم يضطر أي منهم للوقوف في طوابير من أجل الخبز (كما فعل لازلو في الفيلم)”.

استلهم كوربيت شخصية “لازلو” من بعض المعماريين اليهود، لكن الشخصية تظل خيالية بالكامل. كما أشار هو نفسه في إحدى تصريحاته:

لا توجد أمثلة فعلية لأي منهم علق في مستنقع الحرب، ونجا وتمكن من إعادة بناء مسيرته المهنية. بدلاً من ذلك، يستند لازلو إلى عدد قليل من الفنانين اليهود البارزين في حركة العمارة الوحشية، الذين غادروا أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، وبالتالي لم يشهدوا الهولوكوست”.

لا تحتاج إلى التكهن أو الفطنة لتستنبط غرض كوربيت وسعيه منذ البداية، إذ يظهر ذلك جليًا من خلال قرار زوفيا وزوجها بالانتقال للعيش في القدس. ثم في مشهد آخر، عندما تخبر إيرزيبيت لازلو بأن عليهم اللحاق بهما للعيش هناك. يصبح مسار الفيلم واضحًا، حاملاً شعارًا مفاده أن لا مكان آمنًا لليهود إلا في إسرائيل، وأن لا أحد يريدهم هنا وعليهم العودة إلى أرضهم. هذا واجبهم المقدس تجاه شعبهم من أجل الحصول على حريتهم. تتناول إيرزيبيت هذه النقطة في رسائلها مع لازلو في بداية الفيلم، حيث ذكرت في خطابها أنهم لم يصبحوا أحرارًا بعد أن حررهم السوفيت من معسكرات النازيين، ككناية عن أن حريتهم المنشودة لن يحصلوا عليها إلا في “أرض الميعاد”. كل ذلك ليس استنتاجًا ذكيًا، بل كلمات مباشرة على لسان شخصيات الفيلم.

يبدأ الفيلم بزوفيا صامتة وينتهي بها متكلمة، وكأن الحكاية تدور عنها، أو بمعنى أدق عن الشعب اليهودي الذي أستطاع الحديث فقط عندما عاد إلى أرضه الموعودة التي حلم بها، حيث لم تنطق زوفيا طوال الفيلم إلا حينما قررت الذهاب للقدس، ورغم ذلك لم تكن تلك المشكلة الأساسية للفيلم، فتشابكات السياسة والصراعات بمختلف أنواعها والتي تتضاعف حساسيتا طبًقًا للحظة الراهنة، والتي بكل تأكيد لها من الوزن والثقل على روح المشاهد على حسب في أي فريق يقف، لم ولن تكون معيارًا فنيًا، مع الإقرار أنها تؤثر وبوضوح على تجربة المشاهدة.

يبقى فصل الأعمال عن أصحابها ورسائلها المباشرة موضوعًا مثيرًا للجدل. ولكن، حتى إذا تجردنا من كل ذلك وتعاملنا مع الفيلم كحكاية خيالية تدور على كوكب آخر، يظل الفيلم متواضعًا على أقصى تقدير.

استطيع أن ألتهم طبقًا غير محبب لي إذا قُدم بصورة جيدة وبعناية فائقة، لكن هذا لم يحدث هنا على الإطلاق. كما ذكرت، تجاهل صانع الفيلم كافة الطرق لصنع دراما جيدة، بل قفز فوق كل شيء متجاهلًا دوافع الشخصيات ومبرراتهم في سبيل اللاشيء. وهذا يذكرني بفيلم آخر ربما سلك مسارًا مشابهًا، وهو “A Real Pain”، الذي طوال مدته لم يحاول أن يحدثنا عن خلفية أحد شخصياته (بينجامين/كيران كولكين) فتفقد قدرتك على التواصل أو التعاطف معه وخلال مشاهدتك تجد جميع الانفعالات مبالغ بها وغير منطقية من أجل الوصول للذروة فقط.

وبعيدًا عن أن الفيلمين ربما كانا محملين برسالة أرادا إظهارها حتى ولو على حساب شخصيات وأحداث فيلمهم، فإن مثل هذه العيوب تتكرر في أفلام كثيرة وكأن هناك موجة سينمائية جديدة تهدف إلى تسطيح كل شيء وجعله بلا دوافع أو مبررات، ظنًا منهم أن هكذا يصبح الفن قابلًا للتأويل وللقراءة من رؤى عديدة. ولكن الفن الجيد هو ما يستطيع أن يعبر عن مشاعر ما بدقة قادرة على صنع جسر بينه وبين شخوصه، لأن المتلقي يفهمهم ويعي دوافعهم وما يشعرون به ولماذا. فيصبح حينها مرآة قابلة لعدة صور تنعكس بها باختلاف المشاهد، وليست صورة قاحلة لا تعبر عن شيء كمرآة معتمة لا تستطيع أن ترى شيئًا بها.

مشاركة: