حين أسمع كلمة “فانتازيا/خيال”، أستدعي تلقائيًا أفلام مصّاصي الدماء والمستذئبين، أو إدوارد ذو الأيدي المقصّات، أليس في بلاد العجائب، تنانين، خواتم، مومياوات، ممالك في زمان ومكان غير الزمان والمكان. وحين أتخلّى عن النزعة الكلاسيكية الميّالة إلى الماضي، وأخطو إلى عالم الألفية الجديدة حيثما أنتمي، أستدعي العربات الطائرة، الروبوتات، المراكب الفضائية، السفر عبر الزمان، قراءة الأفكار، وغيرها من قدرات خارقة قد تتمناها أيّ طفلة.
الطفلة التي كنتُ عليها في مطلع الألفية الثالثة، لا تعرف معنى النظام المنهجي، ولا البنية المجتمعية، والأيديولوجيات، والصراعات الطبقية والعنصرية، نهاية العالم وما بعد نهاية العالم؛ لأن عالمها، ببساطة، قد ابتدأ لتوه.
انشغل الكبار من حولي بالعالم الذي يهرول نحو نهايته دون فرامل يد، وراح المخرجون والمخرجات، خاصة في الغرب، يلتقطون مظاهر الخوف الناجم عن تداعيات التكنولوجيا على وجه التحديد. نتج عن ذلك أفلام مثل (Blade Runner – District 9 – Her – Arrival – Ex Machina)… والقائمة تطول.
لكن حكايتنا في “مستعمرة شرق 12” تسلّط الضوء على خوف مصري، شرق أوسطي، أصيل.
ديستوبيا الشرق الأوسط
“من يتحكم في خوف الناس يملك أرواحهم”. ميكافيلي
تبدأ حكايتنا في مستعمرة يحدّها بحر النسيان.
النسيان، الخيال، الصبر: مراكب ورقية تطفو على سطح بركان على وشك الانفجار.
*
في مدينة حقيقية أو متخيّلة، على أرض خربة، يحلم “عبده”، الموسيقار صباحًا والتربّي مساءً، أن ينقُر جروفه ويصدم الصندوق المنشود؛ ثم يلفظه الكنز على وش الدنيا. في الليل، يدندن الأغاني ويسرق “ماركات/ فلوس” السيدة التي يدفنها، وحين ينتهي، يذهب إلى المكتب “برعي/أسامة أبو العطا” ليلقى أجره من السكر؛ الغذاء الرسمي في مستعمرات النمل.
استقرت المستعمرة على الحافة بين الواقع والخيال، تمامًا كما ينسج النمل خليته فوق السطح وداخل الجدران. وهذه المستعمرة تحديدًا قائمة على عمودين: الديستوبيا والفانتازيا، لكن “في ناس من كتر الخوف، خيالهم هرب”.
الديستوبيا: مفهوم أدبي، وأحيانًا فلسفي، يشير إلى مجتمع خيالي بائس أو مرعب، غير مرغوب فيه على الإطلاق. هي نقيض “اليوتوبيا – المدينة الفاضلة”.فإذا كانت اليوتوبيا تُمثّل المجتمع المثالي الذي يتمنّى البشر الوصول إليه، فإن الديستوبيا تُصوّر الكوابيس المجتمعية التي يخشون الوقوع فيها.
الديكتاتورية هي الركن الأول لخلق أي مجتمع ديستوبي؛ فبواسطتها تحكم الخلية بأنظمة قمعية أو شمولية، تسيطر على حياة النمل بشكل كامل: من أفكارهم ومشاعرهم، إلى تصرّفاتهم وعلاقاتهم.
في “شرق 12″، تتوزّع السلطة الديكتاتورية على عدّة عناصر، أوّلها في كفّي شوقي باشا/أحمد كمال، الذي يتلقى التعليمات وينفذها بحذافيرها، ويُقلِّد صاحب الأمر ظاهريًا.
“أنا ابن زمان ماهوش ملكي .. وياما في وحدتي ببكي
عشان عشمي في وجه لله بسيب الملك للمالك، وبقطع بالرضا شكي”
بالرغم من السيطرة المطلقة والحرية التي ينالها شوقي، إلا أنه حبيس مثل الآخرين: وحيد، ومكبوت، والأسوأ أنه مسلوب الحق في الغضب، غير قادر على الحلم، عكس الآخرين. يُقيم استعراضه الخاص “فزيون البهلوان” بديلًا عن الحلم، ليس بهدف تملّق حاله، بل استثارة لشفقة مواطنيه ورأفةً بحاله. إن درج مكتبه – للمفارقة- هو منبع مكعبات السكر، لكنه يعجز عن تذوّقها. بيته قصر دون شريكة تؤنسه، وسُفرته تحمل كلَّ ما لذّ وطاب، حتى يحمض ويتحلّل. يحتضن نفسه، يُعطي لنفسه اسم دلع “شوكا”، ويطلب المحبّة من الفأر المسكين في مصيدته.
أما ثاني وجوه السلطة وأقبحهم فهو “برعي”، أو “الكاوبوي”، صاحب أعين المراقبة والحفاظ على الأمن، محققًا الركن الثاني (المراقبة المستمرة) لأي مجتمع ديستوبي. إن هذا “الكاوبوي” غير قادر على الحلم أيضًا، لكنه جائع طوال الوقت، ويتزايد نهمه نحو العنف والجنس والسكر، حتى يلقى حتفه.
*
يجادل محمود درويش أن من يكتب حكايته يرث أرض الكلام، ويملك المعنى تمامًا.هكذا، يُقلَّد الوجه الثالث للسلطة، والعمود الفانتازي للمستعمرة، في جلالة “الحكّاءة/منحة البطراوي” – مالكة الحواديت والأحلام، ومستودع الخُردوات. تكتب حكاية الأرض والبحر، وهي بتلك السطوة، تمتلك المعنى تمامًا. يستميلها “شوكا” بحبّات البن المغشوش .يُقدّم لها فروض الولاء، لأنها الوحيدة القادرة على إغراقه في البحر. يحمي لها حفيدها “عبده”، لكي تحمي حكايته وتحفظ سرّه. يتصاعد التحدّي بينهما حين يتمرّد عبده على شوقي باشا علنًا، ويسخر منه. وحيث إنه غير قادر على قتله، يقرّر أن يضمّه إلى أوركسترا الفِزيون، عقابًا له.
واقعيًّا، وقبل زمن طويل، اعتاد الديكتاتور نفي رموز المقاومة خارج البلاد، والتاريخ مليء بأمثلة الزعماء الشعبيين المنفيّين إلى جزر نائية على مرّ العصور. يملك شوقي الرقعة المكانيّة للمستعمرة، وهدفه هو أن تبقى كلُّ قطعة شطرنج أَسْرَى الطاولة.
يبلور «شرق 12» خوفي كمصرية، شرق أوسطية؛ خوفي أن أظل حبيسة أي بقعة مكانية عكس رغبتي. أخشى فقدان فرديتي وحريتي، أخشى اليأس، وأخشى مُدّعي الزعامة. لا أخشى التطور التكنولوجي المتفاقم، ولا الروبوتات، وغيرها من مخاوف العالم الغربي.
لذلك، يدور فلك السينما الشرقية في اتجاهٍ مغاير، في اتجاه الماضي، فما زالت مخاوفنا متعلّقةً بموقع أقدامنا. يغلب اللون الأبيض والأسود على الحكاية، حاملًا الكابوس الديستوبي، سواء بالنفي أو الإقامة الجبرية. أما الأحلام، فمُلوّنة، كأنما تشير إلى المستقبل الحُرّ.
عبده وحبيبته “ننه/فايزة شامه” وحدهما قادران على الحلم بالألوان؛ يحلمان بالهروب. يرفض عبده أن يصبح رجلًا من رجال شوقي باشا، وترفض “ننه” أن ترث كرسي الجلالة. إن “ننه” أقلّهم خوفًا، وأكثرهم تحمّلًا، وجرأةً، وطموحًا؛ تخلق لها بحرًا خاصًا في أسرها، كأنها تتطهّر روحيًا في طَشت الحمّوم، وتخطّط للهروب بذكاء.
تُعدّ فايزة شامه راقصة في المقام الأول، وممثلة واعدة؛ حيث يُعتبر «شرق 12» أول تجربة سينمائية لها. وقد نجحت في نقل الجانب الجريء و”النغش” من “ننه”، بالتوازي مع الجانب المأساوي لقصتها.
فانتازيا الشرق الأوسط
يتحقق الركن الثالث للديستوبيا حين يفقد مواطن المجتمع المتخيل فرديته وحريته. أما الركن الرابع يكون التلاعب النفسي والفكري الذي تنسجه جلالة في جو خيالي يبدو ممتع للوهلة الأولى -بداية من كرسي الحكاءة المصنوع من البامبو، يظهر على الشاشة قبلها، وبمجرد ظهوره تبدأ الحكاية. فهي تملك الخيال الذي يتحول في يدها إلى عملة مخدرة تضاهي السكر.
*
اعتمدت هالة القوصي على بعض العناصر البصرية، كالديكور، في خلق حالة الفانتازيا داخل الفيلم .هالة فنانة بصرية في الأساس، ويُعد «شرق 12» فيلمها الطويل الثاني، لكنها صرّحت في الندوة التي أعقبت العرض الخاص للفيلم أنها تستمع إلى فكرتها الإبداعية، تتبع حدسها، وتختار الوسيط الأنسب للتعبير عنها، سواء كان: النحت، أو الرسم، أو التصوير. وجدير بالذكر أن غالبية ديكور الفيلم من إعدادها لمشاريع فنية سابقة، وقد تبعت حدسها في التعبير عن فكرة «شرق 12» في شكل وسيط سينمائي، مستعينةً بمنتجاتها الفنية السابقة.
إن أفلام الفانتازيا غير شائعة في الوطن العربي، وعادةً ما تأخذ طابعًا كوميديًا، مثل: (حبيبي نائمًا – سمير وشهير وبهير – أرض النفاق لفؤاد المهندس – عاشور قلب الأسد… إلخ)، إلا أن «شرق 12» فيلم فانتازي درامي، عكس المألوف. وهو أيضًا فيلم موسيقي استعراضي من الطراز الأول، وقد أضفى له البُعد الموسيقي نبرةً خيالية غرائبية مميزة.
تظهر هذه النبرة بقوة في غرفة عبده منذ بداية الفيلم، وهو يؤلّف أغنيةً جديدة على أدواته الموسيقية التي صنعها بنفسه من الخُردوات، والتي استعان بها “أحمد الصاوي” (المؤلف الموسيقي) و”عبدالرحمن محمود” (المصمم الصوتي) لبناء الهوية الصوتية لهذه المستعمرة المتخيّلة.
نلاحظ أن “المزيكا” مقتبسة من يوميات شارع المدينة الديستوبية؛ يتوالى ظهورها في خلفية حكايات جلالة، وعروض الفزيون الخاص بشوقي مع فرقته الاستعراضية، وصولًا إلى أغانٍ تراثية قديمة، كأغنية كروانة مصر “رتيبة أحمد”، التي تدندنها “ننه” باستمرار: “وأنا لسه نونو، في الحب بونو.”
أما اللغة، فهي قديمة عمدًا، مجازية، تفرض مساحةً للتأويل، كما تفرض سحابةً ضبابية فوق المشاهد، وتستفزّه إلى مشاهدةٍ ثانية، تمامًا مثلما فعلت. ومع ذلك، لا تتبخّر السحابة الضبابية فوق رأسي؛ أراجع نفسي، وأعود إلى جلالة وننه وعبده: من حاول الهروب في بداية الفيلم؟ في أول مشاهدة، خمّنت أنهما اثنان عشوائيان، وفي المشاهدة الثانية، خمّنت أنهما والدا عبده. جزء كبير من الأحلام السوداء ذو طابع سريالي، غير واضح، وربما غير موجه قصدًا.
كشفت لي المشاهدة الثانية جماليات الصورة على مستوى أعمق؛ كيف تسرد جلالة صدمتها بعواقب حكاياتها. فلم تكتفِ بالحوار الحاد بينها وبين عبده، الذي يكشف دون تكلّف غرضها النبيل – وهو حماية الناس من اليأس أو الموت، بل تذهب الكاميرا (عبدالسلام موسى) معها في نزهة ليلية للمدينة، بعدما توقفت عن الحكي، حيث تظهر عربات الكارو محمّلة بالموتى الذين حاولوا الفرار.
حينها، تستنتج أن حكاياتها هي المُخدر الحقيقي، وليس السكر أو الداتورا، وأنها الوحيدة القادرة على تحرير المستعمرة من قبضة شوقي. وفي النهاية، تقودهم بنفسها إلى البحر، في مشهد تطهيري مؤثر.
كاتبة ومعالجة نفسية تحت التدريب، مهتمة بالكتابة الأدبية والسينما