غالبًا ما تأتي ذروة المبدع في منتصف الطريق، بعدما أثقل موهبته وقدراته الفنية بالتجارب والخبرات، وتشكلت عنده رؤية واضحة لما يود التعبير عنه في أعماله، ومع ذلك هناك استثناءات من هذه القاعدة، إذ تتفجر الموهبة من العمل الأول ويبدأ الفنان مسيرته من القمة. وهذا ما ينطبق على المخرج المصري سعيد مرزوق الذي مثّل فيلمه الأول «زوجتي والكلب – 1971» ذروة إنتاجه الفني، والذي يُعد فيلمًا تقدميًا على مستوى الفكرة ومعالجتها والتعبير عنها بلغة سينمائية وأسلوب بصري غير مسبوق في حينه، ويظل علامة فارقة في تاريخ السينما المصرية والعربية حتى الآن.
لكن على عكس ما كان منتظرًا منه بعد «زوجتي والكلب» وفيلم «الخوف/ مكان للحب – 1972» الذي يُحسب ضمن أفلام النكسة التي سيطرت على هذه المرحلة التاريخية، بدأ مرزوق بالتخلي عن الاعتماد على الصورة في السرد واتجه إلى المباشرة والاعتماد على الحوار، ثم تهاوت موهبته من القمة وصولًا إلى القاع مع أفلامه الأخيرة التي ختمها بـ «قصاقيص العشاق – 2003»، الذي اضطر كاتبه وحيد حامد إلى رفع اسمه من عليه لأنه لا يشبه السيناريو الأصلي الذي كتبه.
ومع ذلك، ورغم تذبذب المستوى الفني لمجمل أعماله، فالمتأمل لمشروع سعيد مرزوق السينمائي يمكنه أن يلحظ بسهولة سيطرة تيمات محددة مثل النقد الاجتماعي، واستلهام حكايات أفلامه من قصص واقعية. إلا أن أكثر عامل مشترك في مشروعه هو هاجس الرغبة الجنسية الذي يتجلى حضوره خلف القضايا الاجتماعية التي يناقشها عادة، كأحد دوافع السلوك الإنساني.
تتخذ الرغبة مكانًا مهمًا في أفلام سعيد مرزوق، وتتشكل بمعانٍ عدة حسب الحكاية ودوافع أبطالها، وقد يأتي حضورها صريحًا أو متواريًا خلف الحدث الكبير المسيطر، ولكنها تظل محركة للدراما ومؤثرة في دوافع الأبطال.
«زوجتي والكلب».. الرجل في مواجهة غريزته
يحكي الفيلم عن عالم الرجال الذي تسيطر عليه هواجس الرغبة، سواء بتعدد العلاقات أو التيه في الهوس والخيالات. فالأبطال: رجل ناضج (الريس مرسي) يروي غزواته مع زوجات أصدقائه بشيء من الفخر والشعور بالبطولة، لشاب في مقتبل العمر (نور) أسير الحرمان العاطفي والكبت الجنسي، يحيط نفسه بصور الفتيات العاريات التي يجمعها من المجلات، غارقًا في أحلامه عن إقامة علاقة معهن.
يأتي المشهد الافتتاحي كاشفًا عن جوهر الفكرة، وهي العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة. يصوِّر مرزوق المشهد بطريقة السيلويت، حيث لا نرى سوى كُتل سوداء لجسدي رجل وامرأة يتداعبان فوق السرير، في محاولة من المخرج لتجريد المشهد من شخصيات أبطاله، ومجسدًا العلاقة في شكلها الخام قبل أن نعرف من يكون هؤلاء أو ما نوع الرابطة الاجتماعية التي تجمعهما معًا، وكأنه يخبرنا أن هذه الحكاية لا تخص أبطالها فقط، ولكنها تنطبق على الجنس البشري.
تبدو الرغبة في هذا الفيلم بطلاً أساسيًا حاضرًا بالوجود الصريح والرمزي، فهو يحكي عن عالم الرجال الذي يسيطر عليه الهوس بالمغامرات والعلاقات مع الجنس الآخر. ولبلورة هذه الفكرة وتكثيفها، يختار مرزوق الفنار كمكان تدور فيه أحداث الفيلم، فهو مكان لا يعمل ولا يتواجد فيه سوى الرجال وحدهم، في إشارة إلى أنه يتحدث عن عالمهم الخاص فقط. كما يمثل الفنار معادلًا بصريًا للعضو الذكري، نجده حاضرًا في الكادر عندما يسترجع (مرسي) ذكرياته الحميمية مع زوجته الشابة، وفي المشهد الذي يحكي فيه مرسي لنور عن مغامراته مع نساء أصدقائه، وفي المشهد الذي يركل فيه نور علبة صفيح على شاطئ البحر بعدما زعزعت حكايات مرسي ثقته في النساء، وأصبحت تتلاعب به رغبته فيهن وخوفه من خيانتهن مثلما يلعب بتلك العلبة.
الرغبة إنعكاس للخوف واليأس
«الخوف/ مكان للحب» يعد الفيلم الأكثر شاعرية ضمن موجة أفلام ما بعد النكسة التي أخذت تُحلِّل وتبحث عن السبب الحقيقي وراءها: هل هو النظام أم الشعب أم كلاهما معًا؟! وعوضًا عن هذه التساؤلات والبحث عن إجابات لها، اختار مرزوق أن يعبِّر عن انعكاس الهزيمة على نفوس البشر، خاصة هؤلاء الذين اختبروا عنفها ووحشيتها، واختُطِف منهم أحباؤهم وبيوتهم وشعورهم بالأمان، وأصبحوا تائهين بين الاغتراب وألم الفقد والبحث عن ملاذ آمن.
يطرح مرزوق فكرة الحب كملاذ من الخوف في عالم سيطر عليه الدمار، وأصبحت تُنفق فيه أموال طائلة على الحروب بينما لا يجد عاشقان ما يكفيهما ليؤسسا بيتًا يجمعهما. تربط علاقة عاطفية بين سعاد، التي فقدت أسرتها وبيتها في ضرب الاحتلال الإسرائيلي لمدينة السويس، وبين المصوّر الصحفي أحمد الذي تعرفت عليه في معرض فوتوغرافي يصوِّر الكارثة التي حلّت بالمدينة.
يسيطر الخوف والارتياب على سعاد من كل شيء يحيط بها، حتى الشاب الذي يحبها. وتنتابها هواجس متناقضة بين الخوف من استغلاله لوحدتها وهشاشتها النفسية، وبين رغبتها فيه المدفوعة بمشاعرها نحوه. فعندما يدعوها إلى البنسيون الذي يسكن فيه، تبدأ في تخيّله وهو يستدرجها لإقامة علاقة معه، ومع ذلك فهي لا تصده في خيالها، وكأنها تجد في هذا التقارب الجسدي المتخيَّل ملاذًا من مخاوفها.
تستمر هذه المراوغة النفسية داخل عقل سعاد عندما يختبئان من حارس العقار تحت الإنشاء، حيث تفسِّر كل حركة وإيماءة منه على أنها محاولة لاستغلالها جنسيًا. لكن لاحقًا، عندما ينغمسان في أحلامهما عن بيتهما، ويتغلب الحب على الخوف داخلها، تستسلم لخيالها الرومانسي عن علاقتهما، التي لا ينتزعها منها سوى صفارة إنذار الغارة.
لاحقًا، عندما يسترسلان في خططهما عن الزواج ويكتشفان أن دخلهما الهزيل لن يؤمِّن لهما حياتهما البسيطة التي يرغبان في إنشائها معًا، يصبح استسلامها لرغبتها نوعًا من رد الفعل اليائس في عالم مضطرب مجنون لا يعبأ بالحب، لكنه يُنفق مليارات الدولارات على القتل والخراب.
الحرمان كدافع لارتكاب الجرائم
بعد «مكان للحب» بدأ سعيد مرزوق في تغيير بُوصلته، واتجه منذ فيلم «أريد حلًا – 1975» إلى مناقشة القضايا الاجتماعية الآنية وتأثيرها على الأفراد، منتهجًا أسلوب المعالجة المباشرة، ومتخليًا تمامًا عن الصورة كأداة للسرد. كان فيلم «المغتصبون – 1989» من بين الأفلام التي استلهمها من قصص حقيقية، إذ يستعرض قضية واقعية شغلت الرأي العام في ذلك الحين، واعتمد مرزوق في كتابة السيناريو على ملف التحقيقات.
في هذا الفيلم قدّم مرزوق مشهد اغتصاب طويل نسبيًا، بشكل جريء وصادم بالنسبة للجمهور المصري المحافظ والسينما المصرية في تلك الفترة الزمنية التي تختلف إلى حد كبير عن جرأة السبعينيات، مستعرضًا ما فعله كل واحد من المغتصبين الخمسة مع المجني عليها أثناء ارتكاب الجريمة. ليس رغبة في صناعة مشهد مثير يفتح شهية المشاهدين الراغبين في الفرجة على فيلم “مناظر”، بلغة ذاك العصر، ولكن ليكشف عن مدى الكبت الذي يعانيه كلٌّ منهم بسبب الفقر وعدم القدرة على الزواج، وهو ما أقرّ به المجرمون لاحقًا أثناء التحقيقات بعد القبض عليهم.
لا ينفي مرزوق عن المغتصبين وحشيتهم بهذا الفيلم، ولا يحاول تبرئتهم أو تعليق جرمهم على أي شماعة أخرى، فوحشية مشهد الاغتصاب وحدها تدينهم وتؤكد إيمانه الحقيقي بضرورة معاقبتهم. ولكنه يلفت الانتباه إلى أن الفقر، الذي أدى إلى الحرمان الجنسي وكبت الرغبة، قد يؤدي إلى ارتكاب جرائم من هذا النوع.
نساء أتقن اللعبة
ينتمي فيلم «المذنبون» إلى زمرة أفلام النكسة رغم عرضه في عام 1976، وينتهج أسلوب الأفلام التي أخذت تحاكم الانتهازيين من ذوي المناصب، سواء كانت كبيرة أو صغيرة. بالطبع من يشاهد الفيلم سيرى القضية الأساسية المتصدرة وهي فساد المسئولين والنظام الإداري باختلاف درجاته، ولكن يتوارى خلف هذه القضية هاجس الرغبة الجنسية المسيطر على عالم الرجال، والتي أدركتها واستغلتها الممثلة القتيلة سناء كامل.
تدرك سناء تأثيرها وسحرها كأنثى جميلة وفاتنة على الرجال الذين يصابون بالضعف أمام رغباتهم حتى وإن لم تكن مكبوتة، فتقدّم نفسها هدية نفيسة مقابل الخدمات التي تتلقاها من المسؤول الذي يمنحها مواد البناء والتشطيبات من المؤسسة المملوكة للدولة، وللطبيب المشهور الذي سيقوم بإجهاضها، وصولًا إلى المسؤول الكبير الذي أدّى دوره كمال الشناوي، والذي يبدو من حضوره وهيبته التي انعكست على ملامح رواد الحفل أنه أحد أفراد الطبقة الحاكمة.
ولأنها تتقن لعبتها، وتعلم تأثير الجنس الناعم والرغبة على الرجال، توظّف في حاشيتها فتيات صغيرات تدفع بهن إلى أحضان الرجال الأقل شأنًا أو من تريد وجودهم في دوائرها أو من يقدّمون لها خدمات لا توازي قيمتها كأنثى.
يعود سعيد مرزوق بعد عشرين عامًا من المذنبون ليقدّم شخصية مشابهة لسناء كامل، وفي ظروف اجتماعية فاسدة تحاكي إلى حد كبير فترة النكسة، في فيلم «هدى ومعالي الوزير – 1995». استوحى مرزوق شخصية هدى عبد الغني من قضية كبيرة شغلت الرأي العام في تلك الفترة، بطلتها امرأة استولت على أموال المودعين وساعدها أحد الوزراء في الفرار من البلاد.
هدى امرأة جميلة وفاتنة ذات تعليم متوسط، تعمل سكرتيرة بإحدى الشركات الكبيرة، يحاول صاحب الشركة تقديمها هدية لمستثمر عربي يهوى النساء حتى يستطيع الحصول على أمواله. تدرك هدى قيمتها كامرأة وقوة رغبة الرجال وأهمية استغلالها، فتستولي على المشروع وأموال المستثمر لنفسها مقابل زواجها منه. وعندما تعود إلى مصر وتؤسس شركتها، تكوّن شبكة من الفتيات الجميلات اللائي تدفع بهن إلى المسؤولين في مقابل إنجاز مصالحها. وعندما تصبح على شفا الانهيار، تقرّر استغلال هوس الوزير بها وتستدرجه معميًا برغبته فيها، لتصوره وتهدده ليساعدها على الهرب بأموالها خارج البلاد.
يمكننا اعتبار شخصية الراقصة ناهد عفيفي في «قصاقيص العشاق – 2003»، آخر أعمال سعيد مرزوق، هي المعادل النسائي للريس مرسي في «زوجتي والكلب». فهي امرأة شهوانية، تتباهى بكثرة علاقاتها التي لا تفرّق فيها بين وزير أو غفير، صانعة من قصاصات ملابسهم التي تأخذها منهم وشاحًا كتذكار لعلاقتها معهم. ولكنها على عكس مرسي لا تمر بأزمة أخلاقية أو ترتد عليها نزواتها لتعاقبها، فهي متصالحة تمامًا مع رغبتها وتحتفي بها. في المقابل، تلتقي بمصطفى الذي عانى طوال حياته من الحرمان وقرّر أن يعوّضه بزواجه من فتاة أصغر من بناته، لكنها لا تستطيع تلبية رغباته كرجل ناضج. وبينما يجد في ناهد المرأة المناسبة لملء هذا الفراغ، تجد فيه ناهد الرجل الذي يغنيها عن كل نزواتها.
يختم سعيد مرزوق مسيرته بفكرة جريئة ورؤية هزيلة، دفعت كاتب السيناريو وحيد حامد إلى التنصّل منه بعد تسطيحه وتشويهه. ورغم هذه الإخفاقات يظل مخرجًا مهمًا، صاحب مشروع سينمائي حافل بالأفلام الجدلية والجريئة على مستوى الأفكار والموضوعات ومعالجتها، جديرة بالمشاهدة والتأمل.

ناقدة سينمائية ومبرمجة أفلام