“فيه ناس بتلعب كورة في الشارع،

 وناس بتمشي تغني تاخد صورة في الشارع،

 فيه ناس بتشتم بعض بتضرب بعض،

 بتقتل بعض في الشارع،

 فيه ناس تنام ع الأرض في الشارع،

 فيه ناس تبيع العرض في الشارع،

 وفي الشارع…

 أخطاء كتير صبحت صحيحة،

 لكن صحيح حتكون فضيحة لو يوم نسينا.. وبوسنا بعض في الشارع!”

هكذا افتتح محمد خان فيلم «الحريف» عام 1983 من أشعار أمينة جاهين. لا يزال الشارع فاتنًا لأبطال السينما والدراما، وهو ما تبلور في تجارب عديدة في دراما رمضان موسم 2025، لاسيما في النصف الأول منه الذي رفع راية الشارع ليصبح الشارع ومكوناته جوهر الحكايات ومحركها. يتجاوز الشارع هنا كونه مجرد مكان يحتوي الأحداث، ليصبح شخصية حيوية توجه الرغبات والمصائر لأولئك الذين يتحركون في فلكه. بصورة ما، عبر صناع الدراما عن غرامهم بالشارع وملامحه بكل ما فيها من قبح وجمال، حيث غلبت مشاهد التصوير الخارجي في المسلسلات، كما هو الحال مع مسلسل “الشرنقة”.

“الغاية تبرر الوسيلة” أحد أبرز أسس مكيافيلي وهو المنهج الذي اتبعه حازم في مسلسل «الشرنقة». يبدأ حازم متخبطًا لاهثًا داخل المدينة الكبيرة، التي تتلقفه وتزيد من نسبة الأدرينالين في دمه. ليصل إلى مبتغاه، عليه أن يُسلم نفسه وعقله في صفقة ضمنية مع محسن مرجان صاحب مكتب المحاسبة.

حازم، بمظهره البسيط والمحافظ، ونظاراته الطبية التي تعلو ملامحه البريئة، يعيش بين عالمين: عالم الحلم وعالم الواقع، والعامل المشترك بينهما هو المادة التي تسيطر على كل شيء.

تفتح «الشرنقة» وسط الفضاءات الفوضوية

“أنا صحيح حققت اللي محتاجه، لكن مش اللي عاوزه”، هكذا هو لسان حال حازم الذي ضجر من اللهث وراء المواصلات العامة والعيش في بيت إيجار قديم مثل كثيرين غيره يركضون في مسارات دائرية، ليصبح مثالًا حقيقيًا لمعضلة الإنسان المعاصر، الذي يلاحق المادة بأي ثمن، ويعيش في نهم دائم لتحقيق ما هو أبعد.

الازدواجية التي يعيشها حازم في المدينة تتجسد في تعامله مع المكان، المدينة الضخمة التي تفرض عليه أن يتنازل في سبيل النجاح المادي. المدينة، بفضائها العملاق، حيث لا مكان للفرد الضعيف وسط هذا الزخم المادي الذي يلهث حازم ليكون جزءا منه.

تعكس كاميرا مدير التصوير أشرف البداروي ونقلات المونتير رامز عاطف رؤية المخرج محمود عبد التواب للمكان وملامحه، والحالة الشعورية التي تنبع منه. التمسك بلحظات تأملية في ملامح حياة حازم وأسرته الصغيرة، والحميمية التي تغلفها، تتناقض مع الحركات المتسارعة في عالم الحلم. حلم يرغب حازم في تحقيقه، حتى وإن كان طريقه محفوفًا بالمخاطر. يرفض حازم الاعتراف بهلاك محتمل رغم استشعاره لذلك.

اللافت في تجربة مسلسل «الشرنقة» هو تجسيد حكاية ونموذج إنساني كثيرا ما يمكن أن نراه ونحتك به في الشارع رغم غلبة فانتازيا الأحلام ومقاربتها للواقع لكنه انطلق من نموذج حقيقي كثيرا ما تغلبه الأفكار ويحاول التغلب على شعوره بالعجز في المدينة الكبيرة حالة كحال الكثيرين من أبطال الحياة وأبطال النصف الأول من الموسم الرمضاني كما هو حال بوسي في مسلسل «80 باكو».

نساء المدينة والـ «80 باكو»

لو كان حازم يعاني من أحلام اليقظة التي تحركه وتدفعه لإلقاء نفسه في مخاطرة غير محسوبة، فإن حلم الاستقرار والنجاة من البيئة التي تعيش فيها بوسي داخل بيت مكدس، حيث أشخاص تشعر بعدم الانتماء لهم، هو دافعها الأساسي للمضي قدمًا. بالنسبة لبوسي، لا يتوقف الأمر عند مجرد الركض وراء الأمل في حياة أفضل، بل إن هذا الركض يزداد إلحاحًا عندما يواجهها الواقع المادي القاسي. لا تحلم بوسي بالثراء كما هو حال حازم لكنها تطمح في تأمين حياة بسيطة تحقق لها الراحة بعيداً عن صخب وصراع الحياة اليومية.

تجد بوسي نفسها عالقة بين توفير 80 ألف جنيه لتحقيق حلم الزواج من مختار وبين صعوبات وضغوط الحياة ما يخلق فوضى لا تنتهي مع كل خطوة تخطوها بوسي في الشارع مكون رئيسي لهذا العالم. تقضي بوسي يومها في كوافير مدام لولا مع فاتن وعبير ولولا صاحبة الكوافير، ولكل منهن رغباتها. يصعب معرفة ملامحهن، حيث تتأرجح شخصياتهن بين الخير والشر، الحب والحقد. داخل هذا المكان النسائي، بكل ما يحمله من ملامح خاصة، تختبر النساء أنفسهن ويفهمن ذاتهن من خلال مواقف متباينة.

من خلال مسلسل «80 باكو» تكشف الكاتبة غادة عبد العال والمخرجة كوثر يونس حياة النساء في الشارع والصعوبات التي تصوغها الأيام لهن، وتسلط الضوء على تجاربهن المعيشية والتحديات اليومية التي تواجههن. داخل الكوافير، يصبح المكان أكثر من مجرد عمل لكسب العيش، بل هو عالم مصغر يعكس واقعهن وتطلعاتهن في حياة يسودها القلق والمشاعر المتناقضة. الكوافير ليس فقط مكاناً لتمرير الوقت، بل هو ملاذ تتجمع فيه النساء بعيداً عن ضغوط الحياة، ليجدن فيه مساحة للتعبير عن أنفسهن، أو حتى للهروب من واقع قاسٍ يلاحقهن في الشوارع والمنازل من خلال الفكاهة والتخفيف عن أنفسهن بالرقص أو حتى التشاحن.

هنا، في هذه المساحة الحميمة، تتقاطع قصصهن وأحلامهن وتنتقل بين الضحك والدموع، حيث تتكاثر الروابط بينهن وتصبح أكثر قوة. يتبادلن النصائح والأحلام، وينشأ بينهم نوع من التفاهم العميق، إذ تجد كل واحدة منهن في الأخرى سندًا في مواجهة تحديات الحياة مع تطور علاقتهم ببعضهم البعض. في هذه المساحة الصغيرة التي تغطيها رائحة العطور والمنتجات التجميلية، تكمن الحقيقة المرة والجميلة في آن واحد، فالنساء يواجهن معًا مصيرهن المشترك الذي لا يخلو من الألم تتباين ملامحه، ولكن أيضًا من لحظات الأمل التي يقتنصنها في غفلة من الزمن.

عندما تخرج بوسي من الكوافير، يتحول الشارع الآمن إلى عالم آخر تمامًا. حيث يصبح فجأة عدوًا، يحمل في طياته الخوف والنصب. تتحول تلك المساحة التي كانت تمثل الأمان والثقة إلى مكان مخيف، حيث تجد بوسي نفسها وحيدة في مشهد خارجي مظلم، تحمل حقيبة ملابسها الصغيرة، وقد تغيرت ملامح وجهها من الثقة إلى القلق. بينما تتنقل في الشارع ليلاً، يشعر المشاهد بتوتر ملموس من خلال مشاهد التصوير الخارجي التي تعكس وحدة بوسي وضعفها أمام هذا العالم القاسي. في هذه اللحظات، يبدو الشارع ككابوس يلاحقها، وتكتشف أن الأمان الذي كانت تشعر به داخل الكوافير ليس سوى وهْم في مواجهة هذا الواقع المرير الذي يلاحقها خارج حدود هذا الملاذ.

“عارفه يا أبلة لما بتوحشيني أوي بنزل أتمشى في وسط البلد واتفرج على الفتارين، انتي بتحبي وسط البلد أوي”، تقول “بوسي” تلك الكلمات وهي تحادث مدام لولا وهي على سرير العناية المركزة.

عبر المسلسل ومشاهده بصدق عن ملامح وسط البلد، ابتداءً من موقع الكوافير الذي يقع في قلب هذه المنطقة النابضة بالحياة، إلى كل حركة ودوران تقوم به البنات في شوارعها. وسط البلد، بمتاجرها الزاهية وأجوائها الصاخبة، تصبح جزءًا من حكاية كل واحدة منهن، سواء بوسي، فاتن، عبير أو مدام لولا.

في وسط البلد، تتلاشى الفواصل بين مشاعر الفتيات، فكل واحدة منهن تحمل في قلبها حكاية وشوقًا. كما تتداخل بينهن مشاعر المناغشة والنقد أحيانًا، ما يضفي على العلاقات طابعًا خاصًا. هذا التباين بين الحب والابتعاد، بين القرب والاختلاف، يظل هو القوة المحركة لشخصياتهن في وسط هذا العالم المزدحم بالأحلام والتحديات.

العثور على «قلبي ومفتاحه» في الشارع المزدحم

في مسلسل «قلبي ومفتاحه»، يتحول المكان إلى شخصية ثالثة تساهم في بناء الدراما وتؤثر في مسار الأحداث والمشاعر بين الشخصيات. في بادئ الأمر، يلتقي عزت وميار في شوارع منطقة اللبيني بالمريوطية وتتصاعد التوترات بينهما.

على النقيض، يتشكل حب عزت وميار في فندق بسيط وسط شوارع وسط البلد، حيث ينسجم المكان مع مشاعر الدفء والأمان. هنا يتحول المكان إلى ملاذ، يعكس الراحة والسكينة التي يجدها الثنائي في لحظاتهما الخاصة. تتغير زاوية التصوير، لتصبح أكثر انفتاحًا واتساعًا رغم فوضى المكان، فيظهر عزت وميار وكأنهما صغيران في مساحة المكان الواسعة التي تحيط بهما، مما يعزز الشعور بأنهما في عالمهما الخاص بعيدًا عن ضغوط الحياة اليومية.

ومع ذلك، يظل هذا الهدوء مهددًا من قبل “أسعد”، الذي يكمل مثلث تلك العلاقة، حيث تصبح اللقاءات السريعة التي يسرقها عزت وميار في الفندق عرضة للتشويش بسبب تدخل أسعد، ما يعكس الصراع المستمر بين الشخصيات التي تبحث عن الحرية والعاطفة في مواجهة الضغط الاجتماعي والذكورية المسيطرة.

المكان هنا لا يعكس فقط حالة التباين بين البيئة المحيطة، بل يوضح أيضًا أشكال العلاقات المختلفة بين الشخصيات. يظهر أسعد بشخصية الرجل القوي والغامض الذي يعتمد على المال والسلطة، نرى كيف يمكن للذكورة الهشة، المرتكزة على الفهلوة والضغط، أن تفرض نفسها على النساء. بالمقابل، يظهر عزت، الذي يبدو في البداية ضعيفًا بسبب تحدياته المادية، بمظهر الرجل الهادئ والواثق، الذي يفضل الحلول السلمية على العنف، مما يبرز الفرق بين الشخصيات الذكورية المعتمدة على القوة والمال، وبين تلك التي تعتمد على الثقة والإنسانية في العلاقات.

هذا التباين في الشخصيات وفي تأثير المكان يعكس الصراع بين الهشاشة الذكورية التي تجسدها شخصية أسعد، وبين القوة الداخلية التي يملكها عزت، الذي يرفض أن تكون علاقته بميار تحت رحمة المظاهر أو القوى التقليدية. وبذلك، يصبح المكان شاهدًا على التوتر بين تقاليد المجتمع وضغوطه من جهة، وبين محاولات التحرر العاطفي والإنساني من جهة أخرى، ليخلق دراما معقدة تغمرها مشاعر التحدي والمقاومة.

وما يميز هذا الأسلوب هو المخرج تامر محسن، الذي اعتاد في أعماله السابقة على ربط الشخصيات بالمكان بطريقة تساهم في تعميق التفاعل بين الشخصيات وبيئاتهم. يعمد أسلوب تامر محسن على جعل المكان عنصرًا حيويًا في تطور القصة، بحيث يتداخل مع شخصياته ويؤثر على مشاعرهم.

«ولاد الشمس».. المعاناة ليست خيارًا

يُعتبر مسلسل «ولاد الشمس» من أبرز الأعمال الدرامية التي تتناول شوارع المدينة في النصف الأول من رمضان، حيث يُظهر الشوارع كمكان يتنقل فيه الشخصيات الرئيسية بين الأمل والظلام، بين الحياة والموت، الشوارع هي المكان الطبيعي لهؤلاء. في هذا السياق، يجوب “ولعة” و”مفتاح” الشوارع، وكذلك أبناء الدار الذين يعملون في توزيع المواد المخدرة، ليظهر المكان كعالم موحش ومقيد بالنسبة لهم، عالم يشع بالخطر والصراع المستمر. ورغم أن الشوارع مليئة بالتحديات، إلا أن كل مكان يتلون بحسب كل شخصية وعلاقتها به، وبحسب اللحظة الحاضرة التي يعيشها كل فرد.

يغلب على حركة ولعة ومفتاح التنطيط ومواكبة قسوة المكان، “ولعة” الذي تشهد شوارع وسط البلد على قصة حبه مع “سحر” التي تكبره في السن، ويبحث معها عن حنان الأم المفقودة. فـ”ولعة” يبحث عن أمه من خلال الصورة الوحيدة التي يملكها لها، يراها كما لو كانت الجسر الوحيد بينه وبين ذكرياته الطفولية. في كل خطوة يخطوها في الشارع، يشعر بالبحث عن مكانه في هذا العالم، ويبحث في عيون المارة عن أي أثر لها، في رحلة مليئة بالألم والبحث عن الحب والحنان المفقود.

من جانب آخر، يراقب “مفتاح” من خلال أسطح المنازل الحياة التي كان يحلم بها، حياة في منزل دافئ مع أم وأب، حلم حُرم منه بعد أن ذاق طعم فقدانه. المكان هنا بالنسبة له ليس مجرد مكان جغرافي، بل يمثل سجنًا لذكرياته المفقودة وحياة لم يعيشها، وصراع داخلي مع ذاته ومع الماضي.

يمثل المكان في «ولاد الشمس» مكانًا للصراع المستمر لا يمكن الهروب منه، بل يجب مواجهته، وهو ما تعايش معه “ولعة” و”مفتاح” طوال أحداث المسلسل. يظهر ذلك بوضوح من خلال كاميرا مدير التصوير محمد مختار، الذي يقدم التصوير بطريقة تبرز التباين بين الشخصيات وبين الأمكنة التي يتحركون فيها. المخرج شادي عبد السلام يعكس من خلال العمل هذا الصراع في كل تفاصيل المكان، في كل زاوية وشارع، ليخلق بيئة مليئة بالتوتر والدراما، حيث يظل الشارع شاهدًا على معاناة الشخصيات وصراعهم مع واقعهم.

المكان كشاهد صامت حامي

نهار/خارجي

ساحة داخلية بين عمارات

تقترب سهى من جسد ربيع الممدد بلا حراك، تمسك بالسكين وتستعد لغرزها في جنبه، بينما تراقبها ناهد وأحلام بقلق.

تفتح نجلا باب شقتها لتجد جثه زوجها ربيع تسقط أمامها وهناك طعنه في جنبه الأيمن، تتصل نجلا هاتفيا أخوتها اللاتي يحضرن إلى بيتها.

في مسلسل «إخواتي»، يتخذ المكان دورًا مختلفًا حيث لا يقف كخلفية الحدث، بل يصبح شاهدًا صامتًا على ما تقوم به الشخصيات. المباني تقف ثابتة، تتأمل بصمت ما يحدث، تراقب الجرائم المتلاحقة التي ترتكبها الأخوات “سهى”، “أحلام”، و”ناهد”، في محاولاتهن لتوفير الأمان لأختهن “نجلا”. رغم أن تصرفاتهن قد تبدو غير منطقية، ودوافعهن متشابكة بين القلق والحب والجنون، يبقى المكان في موقع الحياد، لا يعلق ولا يكشف عن أسرار ما يحدث خلف جدرانه. لا يتدخل أو يواكب الدراما المتصاعدة، بل يظل صامتًا، يحتفظ برؤيته الخاصة لما يحدث داخل الشقق، ويظل يشهد على الأحداث دون أن يبوح بشيء، مكتفيًا بدوره كمرآة تعكس حالة الشخصيات المتوترة.

 

مشاركة: