أصبح التشريح النفسي لمنظومة الأسرة في الدراما المصرية اللعبة المفضلة للمخرج كريم الشناوي والكاتبة مريم نعوم وورشة “سرد”، حيث يتفننون في رسم خيوطها مع كل موسم رمضاني، بالاشتراك مع الطاقم نفسه تقريبًا. ما يميز هذا التحالف المهني في صورته الثالثة هو توافق المجموعة (الكتّاب، الممثلين، والمساعدين) على اهتمامات مشتركة بموضوعات ذات طابع نفسي واقعي.

ذاع موضوع مسلسل الموسم الحالي «لام شمسية» حول البيدوفيليا منذ شهرين، لكن كريم الشناوي قابل الشائعات بالنفي، رافضًا اختزال عمل فني متكامل في فكرة واحدة، علمًا أننا نشاهد المعالجة الخامسة والنهائية من القصة. في هذه المعالجة، تُشَرَّح طبقات عميقة من المشاكل الأسرية الشائعة، مثل المشكلات الحميمية، الخيانة الزوجية، الأمومة والتربية، وضرورة العلاج النفسي… إلخ.

الحلم دليل

التفت الإنسان منذ أول شروق إلى الأحلام، ونسبها حينًا إلى الشيطان، وحينًا آخر إلى أرواح الموتى. ثم ارتأى مع الوقت قيمتها الوظيفية في التنبؤ بالمستقبل، فكان كل ملك يسعى إلى تحقيق حلمه باعتباره نبوءة ما، حتى اتخذت الأحلام تفسيرات مختلفة على أسس علمية في عصور لاحقة. مثلًا، استدل فرويد على صلة الحلم الوثيقة بالحياة اللاشعورية، فقال: “إن الحلم هو الطريق السلطاني إلى مكامن اللاشعور”.

تبدأ الحكاية من الباطن إلى السطح، وهي بذلك تناجي الكناية الممتازة التي ابتدعتها سمر عبد الناصر، إحدى الكاتبات المساهمات. تنطلق الحلقة الأولى من لاشعور “نيللي”، مستغرقةً نومًا وحدها على كنبتها الصفراء. أحبُّ دعوته الكابوس الافتتاحي. توقن وحدها ما ينقصها ويكاد يتسلل من بين أناملها. تتزايد دقات الساعة تصاعديًا، معلنةً اقتراب النهاية، ويدفعها ذلك إلى فقدان أعصابها، فتستيقظ فزعة.

تبدي “نيللي” رغبتها في الإنجاب في حوار مباشر مع زوجها، وكأن الحمل هو الطارئ المعرض للفقدان في أقرب وقت. ثم تكشف لنا الحلقة السادسة معاناة الزوجين بسبب التشنج المهبلي اللاإرادي، دالًّا على انقطاع الصلة الحميمية – الجنسي منها والعاطفي – بين الطرفين. يفسر ذلك نومها بمفردها أغلب الوقت، سواء على الكنبة أو بمشاركة سرير أحد الأطفال، كما يفسر الجدران الزجاجية التي تحاوطها في الأحلام التالية، مؤكدةً وحدتها النفسية قبل المكانية.

توقعت منذ الحلقة الأولى تتابع سلسلة من الكوابيس تفصح لنا تدريجيًا عن جوهر شخصية نيللي، وقد كان. يظل الحلم نسخة عنيفة من الحقيقة، لا نحتمل مواجهتها في كل الأوقات. فلا تقوى نيللي على الدفاع عن رغبتها في الإنجاب ثانية، سواء بين نفسها أو مع زوجها. أما على الجانب الآخر، فيمسي اللاشعور حرًّا، زاخرًا بالرغبات المكبوتة التي تكدح في سبيل الإشباع، حتى لو سهوًا في حلم قابل للنسيان فور الاستيقاظ، وتُجبر على مواجهة رغبات أنكرت جسدها من طلبها.

تُفجِّر الحلقة الأولى حادثة التحرش بالطفل، والتي يؤديها الممثل الموهوب علي البيلي. إن حرق كارت البيدوفيليا قرار شجاع في سرد هذه الحدوتة، التي أكد مخرجها مرارًا على تركيبتها الحساسة والمعقدة.

تسحبنا الحادثة إلى مستوى أعمق في لاوعي نيللي، مستوى لم تكن هي على استعداد لمواجهته قبل ما صار. تظهر أحلامها في صورة غريبة، بعيدة عن رحب المألوف، وتتابع الأحداث ضد قواعد المنطق الذي نعرفه. هذا بيتها الذي تفرط الأوكرات من أبوابه ويفلت من سيطرتها، خالٍ من أثاثه الذي ينفث الدفء بسهولة في النهار. وفجأة، تتبدد ترابيزة خشبية من العدم، وفوقها تليفون قديم لا ينتمي للزمان والمكان الحاليين. تراودها رغبة التخلص منه فورًا. ترفض مواجهة جرحها لاشعوريًا وشعوريًا، لكن حين تستدير خلفًا، لن تقوى على رفض ندبات يوسف الواضحة وضوح الشمس، وتبث بها أعلى مشاعر الخوف إلى الحد الذي يوقظها.

الفرق بين الحلم والكابوس هو الشعور المصاحب له. فمثلًا، حين تستيقظ من حلم جميل، تدفع نفسك إلى النوم مجددًا لمطاردة عذوبته في جفنيك. على عكس الكابوس، الذي يصاحبه شعور قلق وخوف شديد، لا نظير له في الحياة الشعورية، لشدته من جهة، ولتفاهة العنصر المفجِّر له من جهة أخرى. بذلك، هو أشبه بخوف الأطفال من الظلام أو وحش متخيل. كيف تخبرين صديقتك أنك خائفة من ساعة حائط أو تليفون ريترو؟ لا تفعلين. وينتهي الأمر غالبًا باستدعاء الشعور فجأة، للتغلب على هذه الرغبات، فيهبّ الإنسان من نومه بقلب منقبض وخاطر مفزوع.

المصطلح الشهير: التروما

تتكثف الجرعة النفسية في «لام شمسية» بدءًا من الحلقة السابعة، عند استعانة الشخصيات الرئيسية بالعلاج النفسي، حيث مست جلساته حوارًا شبه مباشر يدفع الأحداث لكي تتدفق بوتيرة أسرع. أشارك في لعبة مريم وفريقها الفني حين أمارسُ أنا—بوصفي أخصائية نفسية وكاتبة—مهارتي المفضلة في تبسيط المعرفة النفسية وتوطينها أدبيًا.

يتناول العمل لمحات مختلفة من الصدمات بأنواعها ومستوياتها واختلاف سياقاتها، لكن ما هي الصدمة؟ أَكُلُّ حدثٍ سيئٍ يُعتبر صدمة؟ لا. التعريف الأيسر والأدق لمصطلح “الصدمة النفسية” هو: أي خطر يدركه المرء أنه يفوق قدرته على المواجهة، أي يترك صاحبه عاجزًا.

الإهمال يُعدّ صدمة، شبحًا يلتصق بظل صاحبه، ويمضي حياته عاجزًا عن صياغة سبب الفراغ المُعشش بروحه حتى يصوغه له شخص آخر. من سوء الحظ أن يلاحظ وسام الإهمال الذي يتعرض له يوسف ويستخدمه لصالح شهوته المرضية. فلم يستشعر يوسف الخطر الذي طوقه به وسام، بالأحرى، لم يدركه خطرًا، بل أدرك ما يفتقده حقًا: الحب، والاهتمام، والتعاطف. حادثة التحرش لا تشكل الصدمة الأولى كما قد يتصور البعض؛ فيوسف، في دورة حياته التي لا تتعدى التسع سنوات، طفلٌ مُهملٌ ومشتتُ الجذور بين والدين غير مستعدين لتربيته. وهو في الأخير طفلٌ متعطشٌ للحب وغيره من المشاعر الطيبة الضرورية لكي يسلك آمنًا في حياته.

يتخطى يوسف حادثة التحرش، بل ويقدر على مواجهة وسام في النفق المضيء، حين يلتئم جرح الإهمال العاطفي الذي تعرض له من أبيه.

أصابت سهام الصُنّاع في تسكين الأسرة تحديدًا داخل هذه الطبقة الاجتماعية، أولًا، لأنها الطبقة الأمثل لتناول الجوانب النفسية الخالصة لصدمة الاستغلال الجنسي، وثانيًا، لأن الإهمال يُعدّ صدمة حصرية للطبقة الأكثر تعليمًا والأعلى اقتصاديًا. كما سمحت لهم بتناول مبادئ مرتبطة بالصدمة لم يسبق تناولها دراميًا، مثل التعافي والنمو حول الصدمة.

بين العين والقلب (الصناعة والتلقي)

وظف القائمون على هذا المنتج الفني كل الأدوات البصرية المتاحة في السرد والتسويق، بدءًا من الأفيش الرسمي وحتى الأفيشات الفرعية التي تزخر برموز تعكس جوهر كل شخصية، ما جعل المشاهد أكثر تفاعلًا معها واستمتاعًا بها. كما أن النقاشات الجماعية التي تلي عرض الحلقات أكدت صواب توقيت البث، رغم ما بدا في البداية كمجازفة للفريق.

على الجانب الآخر، استدل على الحيل الدفاعية لكل شخصية من الرموز الخاصة بها في الأفيش. الحيلة الدفاعية هي أقرب ما يكون للطريق البديل الذي يسلكه الفرد حين يفشل في مواجهة صدمته أو التعافي منها، فيختار حيلة ما تعينه على التعايش مع ما حدث. تظل الأقفاص رمزًا مشتركًا بينهم، كأنهم عالقون. العالم لا يتوقف حين تغرز قدميك في الوحل، بل قد يغير مساره من حولك حتى يتفاداك ويستمر، بينما تظل وحدك، حبيس لحظةٍ وليس مكانًا، حبيس لحظة العجز.

طارق، على سبيل المثال، يغدو حياته مثلما يلعب دور “بصرة” مع أصحابه، يتغذى على امتيازات كل كرت ويتناوب على تبديل الكروت لصالحه. يلجأ إلى كارت العشيقة حين تخذله علاقته الزوجية. أما وسام، فيبدل أقنعته بسلاسة الساحر وغرور سيكوباتي في غير محله، لكي يلبي حاجةً لا يقدر على نكرانها. لكل قناعٍ حيلةٌ تميزه، لكن حيلة الإسقاط هي التي تساعده في تجسيد أقنعته. يرتدي قناع الأب الحاضر عاطفيًا، الزوج الحنون، الابن البار، الصديق المخلص، المحاضر المجتهد… إلخ. لا يفرغ جرابه من الأقنعة.

أصدق تعبير عن الكبت هو القفل، رمز نيللي، وأساس مشكلتها العاطفية مع زوجها. تلجأ إلى حيلة الكبت لأن الألم أقوى من إمكانياتها الشعورية على إحساسه. تُكبت، في حلمها الثالث والرابع، داخل جدران بلا أبواب. لمّحت الحلقة الحادية عشرة إلى أن المفتاح في يد نادية. واجهت نادية الأحداث بالإنكار حتى أبدت الشك في وسام لأول مرة في الثلث الأخير من المسلسل.

هذا تحديدًا ما يميز هذه الشراكة الفنية؛ الاهتمام بمواضيع تمس الواقع الخاص بنا وتناولها فنيًا بشكل تقني بالغ الإمتاع لمشاهديه. مع ذلك، لم يرحب الجمهور بأمينة خليل في دور الزوجة الهستيرية والأم التي تكاد تفقد أعصابها، بسبب تقديمها نفس الشخصية النمطية للمرة الثالثة على التوالي، ولو أنه—من وجهة نظري—يعد أقوى أداء درامي لها في مسيرتها المهنية. يُستحسن أن تكسر هذا القالب الدرامي، ليس فقط من خلال تقديم أدوار سينمائية مختلفة كما تفعل، ولكن بإعادة إنتاج شخصية جديدة تمامًا في الموسم المقبل. على الجانب الآخر، أحمد السعدني، وهو العضو الأحدث في هذه الشراكة، يغير جلده ويطل بشخصية غير مألوفة عنه، بالإضافة إلى محمد شاهين، الذي يقدم لونًا جديدًا من الشر يروع به الجميع بأبسط النظرات.

عادةً ما تقع المدرسة الواقعية في الدراما في فخ الخطابة، فيتحول الحوار إلى وعظ مباشر يخاطب حس الجمهور. ينجرف الثلث الأخير من «لام شمسية» نحو هذا الفخ، لكني ما زلتُ آمل في استعادة التوازن، خاصة أنني أكتب هذه السطور ونحن في الحلقة الثانية عشرة. في المجمل، نحن أمام عمل فريد من نوعه على مستوى الأداء والكتابة والإخراج.

مشاركة: