في فيلم «Days of Thunder»، يتجادل سائق سباقات ناسكار كول تريكل (توم كروز) وجراحة الأعصاب كلير لويكي (نيكول كيدمان) حول مفهوم “وهم السيطرة”. فبعد أن تعرض لحادث مميت، بدأ تريكل يعاني من الخوف والشعور بفقدان السيطرة، وهو ما يتعارض مع طبيعة عمله. هنا تتدخل لويكي وتخبره أن مرضه هو “الإنكار”، وأنه “يريد السيطرة على شيء خارج عن السيطرة”. ثم تُلقي مونولوجًا مؤثرًا بأن “لا أحد يعلم حقًا ما سيحدث تاليًا، سواء أكان على طريق سريع، أو في طائرة، أو على حلبة سباق مع أربعين أنانيًا طفوليًا آخرين. لا أحد يعلم، ولا أحد يتحكم في أي شيء”.
إن النظرة التي اعتلت وجه تريكل بعد هذا المونولوج، والتي كشفت عن خوفه وإنكاره الكامن وراء شخصيته المتغطرسة ظاهريًا، تُذكرنا بلحظة ضعف إنسانية أخرى في فيلم «Rush»، حينما يقرر نيكي لاودا (دانيال برول) الانسحاب من سباق الجائزة الكبرى باليابان عام 1976، بعدما تقبّل للمرة الأولى فكرة “ما لا يمكن السيطرة عليه”، بعد تعرضه لحادث كاد أن يُودي بحياته في وقت سابق. وهذا بالتحديد ما تُشير إليه إيلين لانجر في كتابها وهم السيطرة، بأنه “عندما تتخلص من ذلك الوهم، تبدأ رحلةً حرّةً سلسةً نحو لمّ شملٍ عظيمٍ مع ذاتك الأصلية”. وهذا ما يتوصل إليه “تريكل” و”لاودا” في النهاية.
ولكن، ما بين لحظتَي الضعف البشري التي يمرّ بها كلٌّ من “تريكل” و”لاودا”، واللتين شكّلتا أثرًا بالغًا على مسيرتهما داخل حلبة السباق لاحقًا… ماذا عن أزمة بطلنا المتغطرس سوني هايز (براد بيت) في فيلمه الأحدث «F1: The Movie»؟
أصالة مزعومة وبطل زائف
هذا التساؤل من الممكن أن يُشكّل مفتاحًا للدخول إلى عالم هايز وفورمولا 1 على حد سواء، باعتباره نموذجًا للبطل العائد الذي تقوم عليه الفكرة المحورية للفيلم من أجل خوض مغامرة غرب أمريكية هوليوودية لإرشاد وقيادة الجيل الجديد.
إن العثرات التي خاضها هايز في شبابه، مع حادثٍ مروّع أنهى حياته مع هذه الرياضة قبل 30 عامًا، جعلته شخصًا ممزقًا، مدمنًا للقمار، يتنقل ما بين العمل على سيارة أجرة إلى سباقات السيارات الرديئة داخل عربةٍ متنقلة – حيث يعيش – وهذا ما يجعلها خلفيةً جذابةً ومثاليةً لقصة هذا البطل المتداعي، لنرى كيف أثّر ما أصبح عليه على حياته الآن، في الوقت الذي تتجدد آماله بالعودة لحلبة فورمولا 1 مجددًا، بعدما أقنعه صديقه القديم روبن (خافيير بارديم) بالانضمام لفريقه المتعثر وإنقاذه من هاويةٍ محتومة.
ما فعله المخرج وكاتب السيناريو جوزيف كوسينسكي، والكاتب المشارك إهرين كروجر، افتقر إلى المرونة اللازمة كي يُعيدوا غزل شخصية هايز مع عالم فورمولا 1 مجددًا. فالبطل، الذي من المفترض أنه بعيد عن هذا العالم المُعقّد طيلة 3 عقود، قد يكون متأخرًا بعض الشيء عن باقي أعضاء الفريق، أو غير مواكب لتطورات هذه الرياضة القائمة بالأساس على التقنيات الحديثة في عالم السرعة، أو قد يكون – وهي النقطة الأهم – لديه بعض المخاوف والشكوك والصراعات النفسية الطاحنة المتعلقة بالحادث الذي دمّر حياته.
إن إحدى نقاط الضعف الرئيسية في شخصية سوني هايز، والتي انعكست بالسلب على حبكة الفيلم بالطبع، أنّ هذا البطل الخارق بدا لا يعاني من شيء مثلما فعل تريكل ولاودا، مع أن الثلاثة يشتركون في معضلة الحادث ذاته الذي دمّر حياتهم بدرجات متفاوتة. إلا أن المثير للضجر أنّ هايز تعافى حتى قبل بداية الفيلم؛ فمنذ اللحظة الأولى التي يظهر فيها على حلبة سيلفرستون، كان في غاية الثقة والهدوء، يغيّر استراتيجيات الفريق ويخبرهم بما لا يعرفونه، إنه السائق والمهندس والمدير التقني ومدرب اللياقة البدنية، والعجيب أنه يفعل ذلك كله وهو يقود بسرعة 200 ميل، وهذا يُعطي انطباعًا سلبيًا عن رياضة من المفترض أنها تقوم على مفهوم “الفريق”.
كان من الممكن التماهي مع هذا الفيلم باعتباره قصة هوليوودية بسيطة البناء ومتوقّعة، تجمع كل كليشيهات رياضة السيارات داخل حبكة مفكّكة لكنها مسلّية للغاية، ولكن أن يُروّج كوسينسكي والقائمون على فورمولا 1 طيلة سنوات بأنه “الفيلم الأكثر أصالة على الإطلاق”، فهذا يتضمّن الكثير من الخلل. لا أعلم ما إذا كان مفهومهم عن الأصالة يقتصر فقط على التصوير المذهل والاستثنائي داخل سيارات وحلبات سباق حقيقية خلال موسم الجوائز الكبرى، دون الأخذ في الاعتبار الحاجة إلى تطوّر الشخصيات التي اتسمت بأحادية البعد، ناهيك عن الإخلال بقواعد الأمان والسلامة التي هي جزء أصيل من قواعد هذه الرياضة.
جزء كبير من أحداث حلبة السباق التي بُنيت عليها حبكة الفيلم يعتمد بالأساس على ما يُسمّى بـ”الخطة ج”، حيث يتعمّد هايز الاصطدام بسيارات أخرى على الحلبة لإخراج سيارة الأمان والحصول على توقّفات صيانة مجانية في كل لفة، مما يساعد زميله في الفريق جوشوا بيرس (دامسون إدريس) على التقدّم في السباق، تمامًا مثلما يفعل لاعبو شمال أفريقيا بتعمّد السقوط داخل أرضية الملعب في الدقائق الأخيرة من المباراة. وكانت الفرضية الهشّة التي بنى عليها هايز خطته، أنّ هناك بعض الثغرات في كتاب قواعد اللعبة.
في الواقع، لا يُسمح للسائقين بالاصطدام عمدًا بسياراتٍ أخرى أثناء تجاوزهم لفةً كاملة دون عقابٍ شديد، في ظلّ القواعد الحالية للرياضة. هذه المشاهد لا تعكس صورة فورمولا 1 الحقيقية، بل وتتناقض بشدة مع مزاعم منتجي الفيلم حول أصالة مشروعهم. وحينما سُئل كوسينسكي عن هذه النقطة بالذات، قال إنهم لم يريدوا لسوني أن يغش، بل أرادوا معرفة: “إلى أي مدى يمكنك أن تدفع نفسك حتى تصل إلى حافة الهاوية؟”… حسنًا، لم أجد رده منطقيًا على الإطلاق.
ولكن، إذا صحت مبررات كوسينسكي بالفعل، فلماذا عاد سوني هايز إلى فورمولا 1 مجددًا؟ وما هي مؤهلاته الحقيقية – وليست الهوليوودية – من أجل هذه العودة البطولية الخارقة؟
نساء في الظل
في بداية فيلم «Rush» للمخرج رون هاورد، يخبرنا جيمس هانت (كريس هيمسورث) بنظريته المثيرة حول سبب حبّ النساء لسائقي الفورمولا 1، والسر يكمن في درجة قربهم من الموت: “فكلّما اقتربت من الموت، تشعر وكأنك على قيد الحياة أكثر، وقتها سيكون بمقدورهنّ رؤية ذلك بداخلك”.
ربما تختزل هذه الجملة الكثير عن الصورة التي كرّسها هذا النوع من الأفلام، والرياضة أيضًا، عن النساء طيلة عقود. إن الغرض الأساسي والوحيد لوجودهن في فيلم هاورد هو تذكير المُشاهد بأن البطلين كانا لهما حياة خارج السباق، سواء “هانت”، الذي يتعامل مع النساء كأداة جنسية، أو حتى المتعجرف “نيكي لاودا”، الذي تظهر زوجته كشخصية أشبه بخيال ظل، تلوّح له مبتسمة حين يفوز، وتضمد جراحه بصبر حين يتعرض لحادث مميت.
وهذا ما يدفعنا للتساؤل، بعد مرور ما يقارب نصف قرن على أحداث قصة Rush الحقيقية، واثني عشر عامًا على إنتاج هذا الفيلم: هل تغيرت نظرة هوليوود ورياضة الفورمولا 1 للنساء أم لا؟
لسنوات طويلة، كان سائق الفورمولا 1 لويس هاميلتون واضحًا في دعوته لدفع تلك الرياضة نحو مستقبلٍ أكثر تنوّعًا وإنصافًا. لذا، فكان من الطبيعي أن تسود حالةٌ من الارتياح عندما تم الإعلان عن مشاركة بطل العالم سبع مرات في إنتاج «F1: The Movie» بالطبع، سيساهم هذا في أصالة المشروع؛ ليس فقط فيما يتعلق بالجوانب التقنية للسباقات، بل أيضًا بسياقاتٍ أخرى تتعلق بالشمولية والتنوّع، خاصةً وأنّ هاميلتون يُعد أول بطل أسود في تاريخ رياضة الفورمولا 1.
لذا، عندما ينضمّ هايز إلى فريق APX GP الخيالي، نكتشف أنه يضمّ مديرةً فنية وطاقمًا متعدد الأنواع والثقافات. هنا، بدا الفيلم وكأنه على وشك تحقيق هدفه، لكنه انزلق إلى نقطةٍ بعيدةٍ عزّزت من الصورة النمطية التقليدية للشخصيات النسائية في عالم أفلام السباقات.
سرعان ما نلحظ هذه القولبة النمطية تتجسد في شخصية المديرة التقنية للفريق “كيت ماكينا”، التي لعبت دورها مرشّحة الأوسكار السابقة كيري كوندون. فعلى الرغم من كونها أول امرأة تتولى هذا المنصب التقني الرفيع في تاريخ الفورمولا 1 بسبب براعتها ونشاطها، إلا أن كوسينسكي وكروجر سحقا شخصيتها تمامًا أسفل عجلات ذكورية هايز، الذي وصف تصميمها لسيارة الفريق في أولى لقاءاتهما بـ”الرديء”، ولهذا السبب لم يُحرز الفريق أي نقطة منذ ما يقرب من ثلاثة مواسم.
إن كيت، التي كان يُفترض أنها أذكى شخص في الغرفة قبل لحظات من وصول ذاك الكاوبوي، تخلّت عن فكرتها فجأةً، وأصبحت أسيرةً إلى هذا المستوى من المساعدة الطفولية الذي يقدمه هايز للجميع. وبين ليلة وضحاها، باتت السيارة “الرديئة” تتنافس في المقدمة بفضل رجل غائب عن هذه الرياضة منذ 30 عامًا.
ما زاد من ركاكة رسم هذه الشخصية هو الحبكة الفرعية الرومانسية ما بين كيت وهايز، واختزالها في مجرد مناورة “قط وفأر” تنتهي باستسلام الأخير. ففي أحد المشاهد، يتساءل هايز بنبرة متبخترة عن السبب الذي يجعل امرأة أول مديرة تقنية لفريق فورمولا 1، فترد كيت بأن الجميع يعتقدون أنها لا تنتمي إلى هذا المكان، وستكون سعيدة إذا أضافها هايز إلى هذه القائمة الطويلة، ثم تحذّره بأنه لا مجال للتورط عاطفيًا مع السائقين، خاصةً مع ماضي هايز السيئ مع النساء، لكن سرعان ما نجدها في غرفته بالفندق عشية سباق لاس فيغاس. لتنتهي بعدها تلك الحبكة الفرعية بفتور شديد، مع انتقال هايز إلى مغامرته التالية، التي لن تصبح كيت –بالطبع- جزءًا منها.
وهذا يترك الكثير من الفجوات وعلامات الاستفهام حول هذه الشخصية، والغرض من تصويرها بهذا التناقض اللامنطقي؛ فلماذا تضطر كيت لإخبار هايز بضرورة الثقة بمن يدعمه ويقف خلفه عندما يسير بسرعة 200 ميل على الحلبة، ثم فجأة تنصاع لتعليماته وأفكاره، لا لشيء سوى أنه أثبت صحة فرضيته وحقق نقاطًا للفريق بالغش؟ ولماذا تُمنَح امرأة منصبًا قياديًا بارزًا في رياضة لطالما هيمن عليها الرجال، ثم تُصبح غير كفؤة؟
في الواقع، لم يقتصر خلل تصوير الشخصيات النسائية في الفيلم على شخصية “كيت”، فمن بين الشخصيات الأخرى التي عجز السيناريو عن تطوير خطّها الدرامي، شخصية بيرناديت (سارة نايلز)، والدة جوشوا بيرس، التي تظهر في عدد محدود من المشاهد لتُبدي إعجابها فقط بشخصية هايز. كذلك مهندسة الصيانة جودي (كالي كوك)، أو كما تُعرف بـ”فتاة المسدس”، التي ظهرت وهي تتخبط وتُسقِط الأدوات في محطة توقّف الصيانة، ما أدى إلى تعطّل الفريق. وعندما يتدخل هايز للدفاع عنها عقب السباق، تُحذره جودي بألا يُكرر فعلته لأن ذلك يُضعف من صورتها كامرأة.
هنا، كان من المفترض أن ينمو ويتطور الخطّ الدرامي الخاص بها، إلا أن كُتّاب الفيلم عمدوا إلى إبعادها عن الأنظار حتى النهاية. وهذا يُعيدنا إلى السؤال عينه: لماذا كانت جزءًا من حبكة الفيلم؟
بالطبع، يُمثّل «F1: The Movie» خطوةً إلى الخلف في مسيرة كوسينسكي، فيما يتعلّق بتصويره للشخصيات النسائية، إذا ما قمنا بمقارنته مع فيلمه السابق الناجح «Top Gun: Maverick»، الذي قدّم خلاله شخصية “فينيكس” (مونيكا باربارو)، كواحدة من نخبة طياري البحرية، حيث لم يقم بجعل قصتها تتمحور حول كونها امرأة في عمل يهيمن عليه الرجال، بل واجهت نفس التحديات والانتصارات التي يواجهها باقي أفراد الطاقم، دون التطرق لإشكالية الجنس. وهذا تحديدًا ما يجعل تصوير فيلمه الأحدث للشخصيات النسائية مُربكًا للغاية.
إن الدعم الهائل الذي حصل عليه كوسينسكي ومنتج الفيلم جيري بروكهايمر من القائمين على رياضة فورمولا 1، كان له أثرٌ إيجابي في تعزيز أصالة صورة مدير التصوير كلاوديو ميراندا، بإعطاء لمحةٍ سينمائية فريدة من منظور السائق، تُزيد من انغماس المشاهد وكأنه داخل قمرة القيادة. وهي مغامرةٌ صيفيةٌ جامحة، تستحقّ التجربة داخل قاعة السينما بكلّ تأكيد، لكنها سرعان ما ستتبخّر من ذهنك في النهاية، بنفس السرعة التي يقود بها هايز سيارته على الحلبة.

ناقد سينمائي وعضو جمعية نقاد السينما