منذ لحظاته الأولى يقدّم فيلم «ضي (سيرة أهل الضي)» (2024)، الذي بدأ عرضه في الثالث من سبتمبر/أيلول الحالي، نفسه كعمل إنساني عائلي يطمح للاحتفاء بالاختلاف والدفاع عن المهمشين. الفيلم من بطولة بدر محمد، أسيل عمران، إسلام مبارك، وحنين سعيد، مع ظهور عدد من النجوم كضيوف شرف أبرزهم أحمد حلمي، وهو من تأليف هيثم دبور وإخراج كريم الشناوي.

بطل الحكاية هو مراهق نوبي وألبينو في الوقت نفسه، أي «أقلية داخل أقلية»، وهو ما كان يمكن أن يفتح أفقاً غنياً يكشف تقاطعات الهوية وتجربة الهامش المزدوج. لكن الفيلم اكتفى بالتركيز على الجسد المختلف — لون بشرته وملامحه — كدلالة جاهزة على التهميش، وكأن وجوده البصري وحده يكفي لإثارة التعاطف. هذا الاختزال حوّل الشخصية إلى “علامة” أكثر منها إنساناً، وألغى أبعادها الداخلية التي كان يمكن أن تكشف تناقضات تجربته: مراهق يختبر شغف الغناء وحلم الانتقال إلى المدينة، وفي الوقت نفسه فرد منبوذ داخل جماعته.

وبهذا، وقع الفيلم في فخ التعامل مع الاختلاف الجسدي كأيقونة، فأصبح التمثيل السردي سطحياً، بعيداً عن تعميق التجربة الإنسانية وفتح أفق حقيقي لفهم ما يعنيه أن تكون «أقلية داخل أقلية» في سياق اجتماعي وثقافي ضاغط.

شخصيات وظيفية لا كائنات حيّة

يقدّم فلاديمير بروب في كتابه «مورفولوجيا الحكاية الخرافية/ Morphology of the Folk Tale» منظورًا أساسيًا لفهم الشخصية الوظيفية  داخل العمل الدرامي، إذ يرى أنها تُعرَّف من خلال وظيفتها السردية أكثر من كونها كائنًا إنسانيًا معقدًا. فبعض الشخصيات لا تُبنى على خلفياتها الفردية أو أبعادها النفسية، بل على الدور الذي تنهض به في الحكاية. ومن هنا، تبدو هذه الشخصيات ثابتة، تؤدي وظائف واضحة دون حاجة إلى تعقيد داخلي أو بناء درامي متعمّق.

في فيلم «ضي»، تحاول شخصية الأم، التي تجسدها الفنانة السودانية إسلام مبارك، أن تُقدَّم بوصفها شخصية مركبة. فهي من جهة تُفترض أن تحمي ابنها من التنمّر لكونه “ألبينو” في مجتمع بلون بشرة مختلف، ومن جهة أخرى يُفترض أن تدعم حلمه في التعليم والغناء. لكن التنفيذ الفعلي يُفرغ هذا التناقض من مضمونه؛ فبدل أن نشهد صراعًا داخليًا حقيقيًا بين الرغبتين، تتحول الأم إلى مصدر للعنف النفسي والقيود، إذ تمنعه من الذهاب إلى المدرسة أو الخروج من المنزل بحجة الخوف عليه، بل وتمنعه من المشاركة في برنامج” ذا فويس/ The Voice”، الذي يمثل حلمه الأكبر. بهذا، تُختزل الشخصية إلى وظيفة سردية – “العائق” في مسار البطل – وتفقد إمكاناتها الإنسانية. والنتيجة أن البطل يعيش تجربة “تهميش مضاعف” داخل أسرته، ليُفرض التعاطف معه على المشاهد بدل أن ينبع من بناء درامي صادق.

أما شخصية الأخت، التي تؤديها حنين سعيد، فتقع في الفخ ذاته. فعلى الرغم من إعلانها حبها لأخيها، لا تتوقف عن تجريحه واتهامه بعدم “الرجولة”، سواء بسبب عجزه عن مواجهة أقرانه أو عن التصدي للصوص الذين سرقوا السيارة في رحلتهما من أسوان إلى القاهرة معتبرةً إياه مجرد “مدلّل” لوالدته. وتُقدَّم هذه المفارقة من غير بناء نفسي مقنع، وكأنها وظيفة أخرى لتكريس هشاشة البطل وإبراز ضعفه.

هكذا تبدو الشخصيات في «ضي» مجرد شخصيات وظيفية وأدوات لدفع الحبكة إلى الأمام، وليست كائنات حية ذات دوافع متناقضة ومعقدة. فهي تُحرّك الأحداث لكنها لا تُبنى دراميًا بما يكفي لتقنعنا بإنسانيتها.

أما حضور أسيل عمران، كمدرّسة موسيقى وافدة من المنيا، فيكشف عن إشكالية أخرى في بناء الفيلم. فهي تُرسم باعتبارها “المنقذ” الوحيد الذي يصدق في موهبة ضي، ويشجّعه على المشاركة في برنامج” ذا فويس” في حين يقف الجميع من حوله موقف الرفض أو الشك. هذه الصياغة تعيد إنتاج عقدة المنقذ القادم من الخارج، حيث لا يُعترف بقيمة البطل إلا بوساطة شخصية غريبة عن مجتمعه النوبي. 

كأن الفيلم يرسّخ  ضمنيًا فكرة أن الهامش عاجز عن إنقاذ نفسه أو اكتشاف ثرواته الداخلية، وأن القوة لا تأتي إلا من الآخر “المركزي” أو “الوافد”. هكذا تُسلب من ضي استقلاليته مرتين: أولاً من قِبَل عائلته التي تمارس ضده القسوة والتنميط، قبل مجتمعه، وثانيًا عبر جعل قدرته على النجاة مشروطة بدعم شخصية دخيلة. وبذلك يتراجع البعد التحرّري للعمل، ويتحوّل الخطاب إلى إعادة إنتاج لصورة استشراقية داخلية، تجعل المهمَّش في حاجة دائمة إلى الخارج كي يكتسب شرعية أو أملًا في النجاة.

سينما الطريق: بين وهم الرحلة وحيلة الإبهار

يضع الفيلم نفسه ضمن تقاليد سينما الطريق (Road Movies)، وهو نوع يقوم على الرحلة بوصفها إطاراً درامياً تتحقق داخله تحوّلات البطل. فمنذ أفلام كلاسيكية مؤسسة لهذا النوع السينمائي مثل Easy Rider (1969)، مروراً بتجارب عربية اهتمت بفكرة الطريق والانتقال، أحدثها فيلم «من أجل زيكو» (2022) لبيتر ميمي، الذي انطلق بدوره من فكرة مشابهة: رحلة عائلية يصطحبون طفلهم للمشاركة في مسابقة “أذكى طفل”، ظل هذا النوع يعبر عن الانتقال بين الأمكنة باعتباره رمزاً لرحلة بحث عن الذات أو عن الحرية. ومن هنا يبدو «ضي»  وكأنه يحاول استثمار هذه التقاليد ليصوغ حكايته عن بطل يعيش على الهامش، في رحلة جسدية ونفسية معاً.

لكن «ضي» لم يوظف بنية سينما الطريق كما يجب؛ فالرحلة من أسوان إلى القاهرة كان يمكن أن تعكس مساراً من الهامش إلى المركز، ومن العزلة إلى الاعتراف، لكنها اتخذت شكل سلسلة من اللقاءات العرضية والمفتعلة أكثر من كونها رحلة داخلية حقيقية للبطل. فالتحول من مراهق خجول، منطوٍ ومعزول، إلى قادر على المواجهة وتحقيق أحلامه لم يُبنَ على صراع ذاتي أو اختبار لضغوط اجتماعية واقعية، بل بدا نتيجة “مساعدات وصُدف” تتساقط عليه في كل محطة: بدءاً من مشهد الفلاحات المتجهات لجمع المحصول اللواتي يشجعنه على الغناء في محاولة لإضفاء بُعد شعبي وإنساني عبر الفن كمتنفّس للمهمّشين لكنه يظل لقاءً عابراً يسهل رحلته أكثر مما يختبرها، مروراً بظهور سائق عربة المطافئ (أحمد حلمي) الذي يوصله إلى المحطة، ثم لقائه العابر بمطربه المفضّل (محمد منير) في المستشفى، وصولاً إلى مذيعة التلفزيون (لميس الحديدي) عند مدينة الإنتاج الإعلامي التي تتيح له دخول الاستوديو.

إلى جانب ذلك، فإن استعانة الفيلم بهؤلاء النجوم في أدوار الشخصيات المساعدة لم تُعمق التجربة بقدر ما أضرت بها؛ إذ تحول حضورهم إلى أداة إبهار جماهيري تستجلب التعاطف والانبهار السريع، بدل أن تدفع المشاهد للتفكير في هشاشة مسار البطل أو صدفة هذه اللقاءات. ولو قُدمت هذه الشخصيات كشخصيات عادية بلا نجومية طاغية، لكان خلل البنية الدرامية قائماً بوضوح، لكنه اختفى خلف بريق النجوم الذي استسهل الفيلم توظيفه.

المهمشون بين العمق والافتعال: من «يوم الدين» إلى «سنواويت» وصولاً إلى «ضي»

في السنوات الأخيرة، اتجهت بعض الأفلام الروائية المصرية إلى جعل الفئات المهمشة في صدارة السرد، لتعـيد النظر في علاقتنا بالاختلافات الجسدية والاجتماعية. المعيار هنا يكمن في الكيفية التي يُمثل بها هذا “الجسد المختلف”: هل يظهر ككائن كامل، له أحلامه وصراعاته، أم يُختزل في علامة سطحية تستدر العاطفة؟

فيلم «يوم الدين» من إخراج أبو بكر شوقي (2018)، قدم شخصية مريض جذام في رحلة بحث عن جذوره، ليكشف عن عزلة تفرض عليه من المجتمع، لكن من دون اختزاله في مرضه؛ إذ ظهر ككائن كامل، له ذكاؤه وأحلامه ومواقفه. ورغم انزلاق بعض مشاهده إلى مونولوجات مباشرة، فقد سعى الفيلم بوعي إلى تجاوز “التنميط”، ونجح في ملامسة الجوهر الإنساني للشخصية، بعيداً عن تحويلها إلى مجرد “علامة” على التهميش.

أما «سنواويت» من إخراج تغريد عبد المقصود (2024)، فاختارت بطلة قصيرة القامة، تدور حكايتها حول شابة تحلم بالزواج والعثور على الحب الحقيقي، لكنها تجد نفسها في مواجهة التنمر الاجتماعي ونظرة الآخر إلى جسدها المختلف. ربط الفيلم بين الجسد المختلف والرغبة في الاعتراف، مقدماً شخصية أنثوية متفردة تسائل معايير الجمال المهيمنة في الثقافة البصرية. وهنا يصبح الجسد المختلف أداة نقد للثقافة السائدة، لا مجرد وسيلة لاستدرار العاطفة أو الشفقة. وبرغم أن التجربة لم تخل من مشاكل على مستوى الطرح والتنفيذ، فإنها تمثل خطوة مهمة في تفكيك الصورة النمطية للجسد المهمش.

في المقابل، يأتي «ضي – سيرة أهل الضي» (إخراج كريم الشناوي، 2025) ليخاطر بالوقوع في فخ الافتعال. فالبطل، وهو طفل نوبي وألبينو، يمتلك كل عناصر التميز الحكائي، لكنه يُقدّم غالباً بوصفه “ضحية” في انتظار منقذ خارجي أو دفعة من نجم عابر. وبدل أن يشكل خطوة نحو تقديم النوبيين بصورة أكثر تعقيداً من القوالب النمطية التقليدية، يظل الفيلم محصوراً في تقديم مظاهر سطحية مثل الأغنية النوبية أو الجلابية البيضاء، من دون الغوص في بنية المجتمع النوبي أو تناقضاته الداخلية. هكذا يُبقي على بعض ملامح الاختزال الثقافي الذي طالما ميز السينما المصرية وجعل من الفيلم خطاباً دعائياً موجهاً للمهرجانات أكثر منه عملاً يستبطن معاناة الاختلاف ويحوله إلى دراما حقيقية.

تُعلن هذه الأفلام أنها موجهة “للجميع” وتدعو إلى شمولية الاعتراف بالمهمشين، لكن هنا يبرز التناقض الأوضح: فبينما تكرّس أساساً داخل دوائر مهرجانية نخبوية. فقد شارك «يوم الدين» في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في دورته الحادية والسبعين عام 2018، فيما عُرض «سنواويت» ضمن المسابقة الرسمية للدورة الرابعة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي عام 2024، حيث حصدت بطلته جائزة أفضل ممثلة. أما «ضي – سيرة أهل الضي»، فبعد عرضه في مهرجان البحر الأحمر، شارك في قسم أجيال بمهرجان برلين السينمائي 2025، وهو قسم يركز على الأفلام ذات الطابع الإنساني والأفكار الجديدة. وهكذا تظل هذه الأعمال محصورة في فضاءات تحتفي بالاختلاف كموضوع جمالي أو إنساني، لكنها لا تصل بالضرورة إلى الجمهور الأوسع الذي يُفترض أن تواجهه وتغير نظرته.

جماليات الصورة والموسيقى

يُحسب للفيلم اهتمامه بالصورة، إذ تبدو بعض الكادرات تراهن على الضوء والألوان والظلال لتكثيف الإحساس بالمكان، خصوصا في مشاهد الجنوب بين الأقصر وأسوان. غير أن هذا التركيز ظل معلقا عند حدود الجمال البصري، من دون أن يوظف حقًا في خدمة الدراما أو رسم مشاهد متقنة تُعمق معنى الرحلة أو تكشف أبعاد الشخصيات. كأن الفيلم يكتفي بالتماهي مع فكرة “البوست كارد” أكثر من بناء سرد بصري متماسك.

أما الموسيقى فشكّلت أحد أكثر العناصر حيوية وإقناعاً في الفيلم. إعادة غناء أغنيات محمد منير منحت العمل بعدًا وجدانيًا، وداعبت ذاكرة جمهور واسع يرى في صوت منير جزءاً من هوية الجنوب وذاكرته الثقافية. هنا تلتقي الحكاية الفردية للبطل مع تراث جمعي أوسع، وهو ما كان يمكن أن يشكّل ركيزة أساسية للرحلة لو تم البناء عليه بعمق أكبر.

هكذا يتأرجح «ضي – سيرة أهل الضي» بين طموح سينما الطريق التي تستند إلى الرحلة كاختبار إنساني، وبين نزوع تجاري يسعى لإبهار المتلقي بالوجوه المألوفة والأغاني المحبوبة. والنتيجة عمل يثير النقاش: هل استطاع حقاً أن يصنع سيرة بصرية لأهل الضي، أم أنه اكتفى بمحاولة أن يكون رحلة ممتعة للعين والأذن دون أن يبلغ عمق التجربة الإنسانية التي تُعد جوهر هذا النوع من السينما؟

مشاركة: