بالنظر إلى الأفلام المشاركة في مهرجان أسوان السينمائي الدولي لأفلام المرأة في دورته التاسعة، يبرز ملمح مشترك يجمع بينها جميعًا، والمفارقة أن سبب التشابه هو ذاته الاختلاف. ما يوحِّد أفلام مسابقات مهرجان أسوان هو الإنسانية، وتجاوز الحدود، واتخاذ التباين جسرًا للتقارب.
بدايةً من التشارك في الإنتاج، الذي أصبح سمة واضحة في أفلام ما بعد الألفية وحتى اليوم، وصولًا إلى الاتجاه السائد في صناعة السينما الحديثة، حيث يتبادل المخرجون والممثلون والمبدعون من خلفيات ثقافية ودولية مختلفة رؤاهم وأفكارهم، ويبدعون أعمالًا تدمج بين العوالم المختلفة، بما يتماشى مع مفهوم العولمة الثقافية، وتقارب القيم والهموم والمشتركات الإنسانية عبر العالم.
كما هو جليّ في إنتاجات هذا العام، والتي انعكست بدورها على تشكيل ملامح مسابقات المهرجانات، يتضح اهتمام المنح الإنتاجية وصنّاع السينما على حد سواء بالموضوعات التي قد تبدو بعيدة عن محيطهم المادي، لكنها تعبر الحدود بفعل بُعدها الإنساني. تتباين اللغات والثقافات، لكنها تتوحد في سرد قصص تمسّ النظرة إلى الحياة.
هذا ما نلمسه في عدة أفلام بالمهرجان سنتناولها بالتفصيل، منها الفيلم البولندي «الأشجار الصامتة» Silent Trees للمخرجة Agnieszka Zwiefka – أنيشـكا زويفـكا، والفيلم الإماراتي «تواصل» Connection للمخرجة Negar Azarbayjani – نِـگار آذربایجانـی، والفيلم النمساوي «قمر» Moon للمخرجة Kurdwin Ayub – كردويـن أيـوب، والفيلم التونسي «سودان يا غالي» للمخرجة Hind Meddeb هند المدب، وجميعها تتنافس ضمن مسابقة الأفلام الطويلة.
ملامح التباين والتداخل الإنساني تظهر أيضًا في مسابقة الأفلام القصيرة، كما في الفيلم البريطاني «ستأتي أمطار خفيفة» There Will Come Soft Rains للمخرج Elham Ehsas – إلهام إحساس، والفيلم التونسي «تهليلة» A Lullaby Unlike Any Other للمخرجة Amani Jaafer – أماني جعفر، بالإضافة إلى مسابقة أفلام ذات أثر التي يشارك فيها فيلم التحريك المصري الهولندي «مسارات آمنة» من إخراج مريم عبد الرحمن.
تقاطعات إنسانية
نستهل مع الفيلم البولندي الوثائقي «الأشجار الصامتة» Silent Trees، الذي يتناول مسألة اللجوء والصعوبات التي يواجهها اللاجئون من أجل الاستمرار في الحياة رغم الألم، من خلال قصة المراهقة الكردية “رونا”، البالغة من العمر 16 عامًا، والتي تفقد والدتها في حادث مأساوي على الحدود البولندية-البيلاروسية أثناء محاولة الأسرة الهجرة والهرب من ويلات الحرب. لا تتوقف مأساة “رونا” عند الفقد، بل تُجبر على أن تحلّ محل والدتها لتقوم برعاية إخوتها الأربعة الصغار.
عادةً ما يشكّل سؤال دافع المخرج للاهتمام بفكرة معينة دون غيرها نقطة محورية في فهم وقراءة الأعمال السينمائية. في “الأشجار الصامتة”، تلجأ المخرجة زويفكا إلى المزج بين السينما التسجيلية والرسوم المتحركة، للتعبير عن التقلبات النفسية التي تمرّ بها شخصية “رونا”، وتجسيد مخاوفها وقلقها من المستقبل.
إلى جانب الطرح الإنساني لقضية اللجوء، تقدّم زويفكا صياغة سينمائية غنية بالتفاصيل، تنتقل بالفيلم التسجيلي من كونه مجرّد راصد للأحداث إلى عمل قادر على كشف الملامح النفسية العميقة لشخصياته، وطرح تساؤلات إنسانية ضمنية دون مباشرة أو ابتذال.
الحب كلغة مشتركة بين البشر
ومن قضايا اللجوء والشتات، ننتقل إلى العلاقات الإنسانية العابرة للحدود. يقدم الفيلم الإماراتي «تواصل» Connection للمخرجة الإيرانية نِـگار آذربایجانـی، قصة تدور في مرحلة ما بعد جائحة كوفيد-19، التي جمّدت العالم. كانت سلمى، السيدة الإيرانية الحامل، تخطّط للانتقال إلى كندا، مع اعتبار الإمارات مجرّد محطة عبور، لكن الجائحة قلبت خططها رأسًا على عقب، فاضطرت للبقاء مع أخيها ماني.
ومع ولادة طفلها مبكرًا ونفاد أموالها، لم تجد سوى ملاذ السيد رشيد، الرجل الإماراتي الذي احتضنها في بيته وقلبه. ينمو بينهما حبٌّ رقيق، يشبه تجمّع قطرات الماء في جدول صغير، لكنه يظل مهدّدًا بالزوال في كل لحظة.
يقدّم الفيلم، المتعدّد اللغات، رؤية إنسانية تتجاوز الحدود والصراعات الظاهرية بين القوميات، معلنًا أن الحب يظلّ اللغة المشتركة بين البشر، حتى لو كانت للقدر كلمته الخاصة، فالتواصل الإنساني يبقى هو الملاذ الأخير.
أحلام وثورات
في سياق آخر من الاغتراب الجغرافي والنفسي، تأتي قصة الفيلم النمساوي «قمر» Moon للمخرجة كردويـن أيـوب. تدور أحداثه حول “سارة”، لاعبة الفنون القتالية السابقة، التي تغادر وطنها النمسا لتدرّب ثلاث شقيقات من عائلة ثرية في بلد بالشرق الأوسط، مقابل راتب مغرٍ وحياة مترفة. سرعان ما تكتشف أن الوظيفة التي بدت لها حلمًا، تخفي وراءها واقعًا آخر، حيث يتحوّل البيت المترف إلى سجن مغلق.
يتعزّز شعور الاغتراب من خلال التصوير السينمائي والحوار، وصولًا إلى أداء الممثلة فلورنتينا هولزينجر، الذي جاء بملامح جامدة تُخفي تحتها كل ردّات الفعل المحتملة. تدرك سارة تدريجيًا أن وجودها في هذا المكان يرتبط بسبب خفي يتجلّى مع تطوّر الأحداث، فتدفعها غريزتها وحياتها السابقة إلى التصرّف والخروج بمحض إرادتها، مواجهةً خطرًا لطالما حاولت تجنّبه، في سبيل إنقاذ حياتها بعد تحطّم أحلامها في النمسا.
أما في الفيلم التونسي «سودان يا غالي» من إخراج هند المدب، فتعيش المخرجة أجواء الثورة السودانية، متتبعةً وجوهًا نسائية شابة تحمل راية الثورة. وجوه تبحث عن إجابات، عن وسائل لإعلاء صوت الحرية. تسير هند المُدب وسط هؤلاء النسوة والرجال، موثّقةً الحلم والثورة، كاشفةً أن الثورة فكرة إنسانية عابرة للحدود الجغرافية، تتلاقى فيها التطلعات إلى العدالة والكرامة رغم اختلاف الأوطان.
أهازيج الغربة والمقاومة
وننتقل إلى الأفلام القصيرة، حيث تتردد أصداء الاغتراب الثقيل والحنين إلى الوطن. في فيلم «تهليلة» A Lullaby Unlike Any Other من إخراج أماني جعفر، نشهد صرخة إنسانية عالمية قادمة من تونس، تتناول القضية الفلسطينية من خلال شخصية “نور”، التي تغترب عن الأراضي المحتلة لتحصل على فرصة تعليمية أفضل في السويد، لكنها، رغم الأمان الظاهري، تعيش خوفًا دائمًا، محاطة بذكريات وطنها وعائلتها المثقلة بالألم والفقد.
الـ”تهليلة” التي تغنيها الأم لرضيعها لينام، تصبح في الغربة السلوى الوحيدة لنور. وربما استلهمت المخرجة أماني جعفر هذا العمل من تجربتها الشخصية أثناء دراستها للسينما في ستوكهولم، مع تزايد تفاعل العالم مع القضية الفلسطينية، لا سيّما بعد تصاعد الحرب على غزة في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر 2023.
وفي الفيلم البريطاني «ستأتي أمطار خفيفة» There Will Come Soft Rains من إخراج إلهام إحساس، يقدم المخرج قراءة جديدة للتعامل مع الفقد عبر شخصية “ميرا”، التي ترفض التسليم بفقد والدها، متأرجحةً بين إيمانها الداخلي ورغبتها الجامحة في التمرد، في بيئة بريطانية جافة تخنق الأحاسيس.
أما فيلم التحريك «مسارات آمنة» للمخرجة مريم عبد الرحمن، المشارك في مسابقة “أفلام ذات أثر”، فيتتبع معاناة الشعب السوداني من خلال رحلة أم وابنها إلى مصر، بحثًا عن ملاذ آمن وسط أهوال النزوح.
السينما كلغة كونية
تجمع بين هذه الأفلام لمحة جامعة، إذ يتجلى اغتراب الأبطال في أوطان بديلة، واختبار تمزق الروح بين الوطن/السكن والأمان/الملاذ، وهو ما تترجمه موضوعاتها التي تتناول قضايا الحروب، واللجوء، والانتماء الإنساني. ويتقاطع ذلك مع معطى عالمي يتمثل في تجاوز صُنّاع السينما من الأجيال الجديدة لحدود القوميات، وتبنّيهم سرديات إنسانية عابرة للحدود، انطلاقًا من وعيٍ بأن قضايا الهجرة والاغتراب باتت من أبرز وجوه العولمة الثقافية. غير أن هذه العولمة، التي روّج لها العالم لعقود، تكشف اليوم عن وجوه أخرى، تحمل في طياتها لَومًا ضمنيًا لمروّجيها، حتى وإن لم يُدركوا ذلك بوعيٍ كامل.

ناقدة سينمائية