إذا سألنا أنفسنا سؤالًا واحدًا عن أكثر الأشياء التي نتمنى حدوثها، ربما ستكون الإجابة واحدة، وإن اختلفت الصور الأمل في النجاة، وتحقيق الأحلام. ولعل ذلك الصراع الدائم الذي يعيشه الإنسان مع نفسه، وسط هذا العالم المتسارع، هو أكثر ما يؤجج أفكاره، ويثقله بهمّ الإجابة عنه. وهذا ما ظهر في مضامين الأفلام التي عُرضت بمهرجان الإسكندرية هذا العام.

المهرجان الشاب، حديث العهد، والذي كان أغلب مشاركيه من الشباب أيضًا، حملوا بداخلهم همومًا ومعانيَ صنعت أفلامًا واعدة، لم تنفصل أفكارها عمّا يعيشه –ربما– هؤلاء الشباب: الأمل في النجاة، والعيش بسلام، أصوات المهمَّشين، وأحلام تبحث عن طريقها إلى النور. لذلك، لم يكن غريبًا أن تحمل أغلب هذه الأفلام تيماتٍ مشتركة على اختلاف جنسياتها، جمعت بين صوت المرأة التي تصارع للعيش رغم التحديات التي تواجهها، وبين تلك الأحلام المُحلِّقة التي نتمنى أن تصبح حقيقة يومًا ما.

في هذا المقال، نستعرض أهم وأبرز تلك الأفلام التي حملت بداخلها رسائل حالمة، وحكايات لشخصيات تستحق أن تُروى.                    

أحلام تبحث عن وجهتها وصراع دائم بين الذات والعالم

كانت البداية مع الفيلم الوثائقي القطري «مسرح الأحلام» للمخرجة فاطمة الغانم. ورغم أن الفيلم يوثق حدثًا حقيقيًا، فإن المخرجة آثرت تقديمه بأسلوبDocufiction  أو “الفيلم الوثائقي الدرامي”، فمزجت فيه بين لقطات من قصتها كلاعبة سابقة في فريق كرة القدم النسائية القطري، وتلك اللحظات التي عاشتها في سعيها لتحقيق حلمها، قبل أن يتلاشى ذلك الحلم سريعًا.

لكنها تعود لتستعيد تلك الذكرى مجددًا مع قرب انطلاق المونديال في قطر؛ فتظهر تلك الطفلة الصغيرة التي ترتدي زي لاعبي كرة القدم، وتركض مسرعة نحو ملعب أحلامها، لتلحق بها بطلة الأحداث، محاولةً التمسك بتلك الأحلام القديمة التي دُفنت تحت وطأة المجتمع والتقاليد.

وهكذا، تقع بطلة الفيلم في صراع داخلي، بحثًا عن ذاتها بين أحلام الماضي والحاضر، والعادات التي تحرمها من ممارسة ما تحب. وتنتهي القصة بغرفة تعج بتماثيل قديمة (مانيكان)، تمثل أحلام فريق السيدات الذي ظل عالقًا بين الغبار ووسط الظلام.

ولأن الأحلام لا تُقيَّد بحدود الزمان والمكان، جاء الفيلم الروائي «مكان تحت الشمس» من جمهورية مولدوفا، ليحكي عن عازف بيانو متقاعد، يحلم بعيش حياة كريمة مع أسرته الصغيرة. ولأجل النجاة من ضيق ذات اليد، يعمل بائعًا متنقّلًا للخضراوات والفاكهة، ورغم ذلك، يحاول أن يُبقي حلم ابنه الصغير حيًا؛ ذلك العاشق الذي يتمنى اللعب في إسبانيا. ورغم محاولات زوجته المتكررة لإقناعه بالهجرة إلى أوروبا، فإنه يؤثر البقاء.

يستعرض الفيلم قسوة الحياة التي يعيشها الكثيرون من أجل توفير حياة كريمة وآمنة لأنفسهم ولعائلاتهم، وكيف يتحملون في سبيل ذلك الكثير من الصعوبات، آملين في واقعٍ أفضل. ويبقى الحلم معلقًا في قلب الأب: أن يساعد ابنه يومًا ما على السفر إلى إسبانيا ولعب كرة القدم، ليحقق ما فشل هو في تحقيقه في عالم الموسيقى، ويعيش على أمل أن يجد لنفسه مكانًا تحت الشمس.

أما في مكانٍ آخر من هذا العالم، فيأتي الفيلم الفلسطيني الإسباني «غميضة»، وهو فيلم رسوم متحركة يتناول أحلام أطفال الحروب المعلّقة بالطائرة الورقية، التي تطيح بتلك الأحلام البريئة وتتركهم وسط القنابل والدمار والغارات، فلا ملجأ لهم سوى الظلام والخوف. يستعرض الفيلم قصة فتى يعيش في مخيمات اللاجئين، وتضطره ظروف الحرب إلى النزوح من مكان إلى آخر بحثًا عن النجاة، وهو يحمل بين يديه سمكته الصغيرة داخل كوب ماء.

حلم طفل هو حلم وطن بأكمله في أن يجد السلام والأمان يومًا ما. وبين لهيب الحرب وحر الطريق وتبدد أحلام المنزل الآمن، تقودهم الظروف إلى الهجرة غير الشرعية، ليجد الصغير نفسه يغوص في الأعماق فاقدًا كل أفراد عائلته، ولا يبقى سوى هو وسمكته الصغيرة، في مشهد يُعيد إلى الأذهان صورة الطفل “إيلان”، وغيره من الأطفال الذين غرقت أحلامهم، وتركهم البحر على شاطئه بلا حول ولا قوة.

وكما نفقد أحلامنا في صراعنا مع قسوة الحياة، هناك من يمكنه صنع تلك الأحلام بيديه. في الفيلم الروائي التايواني «جماد متحرك»، تروى قصة نحّاتة تُصاب بمرض في الأعصاب، يفقدها القدرة على أداء عملها بشكل طبيعي، كما تعاني من مشكلة في الإنجاب. فتقرر أن تصنع آخر تماثيلها لفتاة صغيرة، ورغم معاناة المرض، تقاتل لتكمل عملها، أو ربما حلمها الأخير في الوجود.

وكأن تلك الفتاة الجامدة، في عالم آخر موازٍ، هي نفسها صوت البطلة الحي بداخلها، ودليل على أنها لا تزال هناك. فهي تشبهها في جمودها المترقب لما سيحدث مع تآكل جسدها، وفي خوفها مما هو قادم. ومع تحرك ذلك التمثال الصغير بشكل فانتازي، يتجدّد الأمل فجأة بأن المستحيل يمكن أن يحدث في لحظة ما. وهذا الأمل هو ما يُبقينا أحياء، ليدوم فننا ما دام الزمان.

ويُختتم الفيلم بعبارة: “بعمق الشتاء، يكمن بداخلي صيف لا يُقهَر”.

من الهامش إلى الضوء…هموم المرأة وآمالها باختلاف خلفياتها

أكثر المهمشين في المجتمعات هم الفقراء، فكيف إن كانت امرأةً حاملًا وبمفردها؟ فالمعاناة هنا تتضاعف، ومع تلك الظروف القاسية، نتتبع رحلة بطلة الفيلم الأردني «زهرة»، للمخرج هادي شتات، والذي يتناول معاناة سيدة حامل تحتاج إلى إجراء عملية ولادة قيصرية، لكنها غير قادرة على تدبير المال الكافي.

وبعد أن تغلق في وجهها جميع السبل، تضطر للعمل لساعات إضافية في المصنع الذي تعمل فيه، لكنها تصبح مهددة بالفصل بسبب ظروف حملها. غير أن مجرى الأحداث يتغيّر حينما تُكتشف جريمة سرقة في المصنع، لتتخذ حياتها مسارًا مختلفًا بالكامل.

رحلة من المعاناة تعيشها امرأة تحاول أن تنال أبسط حقوقها، في صراع تخوضه بمفردها، يُجبرها على سلك طريقٍ مؤلم للهروب من واقعٍ قاسٍ فُرض عليها. فتصبح أقصى أمانيها هي النجاة والوصول إلى ملاذٍ آمن، بأحلام حزينة ترمز إليها تلك البالونة الزرقاء، التي تشبه حياتها، وينتهي بها المطاف عالقة في الأسلاك الشائكة التي تمنعها من التحرّر والانطلاق بأمان. وتكون المفارقة أن حتفال يوم العمال المهمشين يصبح مثالًا صارخًا على سحق أحلامهم، تحت مسمى الظروف الاقتصادية الصعبة.

وكما هو الحال مع الحق في الرعاية، هناك حقٌ آخر يُسلب من المرأة، وهو حرية اختيار مصيرها وسط مجتمع تُكبّله العادات والتقاليد. تعيش بطلة فيلم «قفص تفيدة» في ظل هذا الواقع، حيث تنتظر منها عائلة زوجها أن تُنجب ذكرًا، بينما تُحاك حولها المكائد طمعًا في المال، وبين ضغوط العائلة وشعورها بالاختناق، تقرر الاختيار للمرة الأولى، لكن بشكل مأساوي.

الفيلم يعكس حالة الاضطهاد والضغط النفسي التي تعيشها المرأة داخل مجتمعات لا تعترف بإنسانيتها، وتضعها في قالب ضيق من التوقعات والقيود، لتكون أشبه بطائر محبوس في قفص، تُترك فيه لتختنق بصمت، دون صوت أو مقاومة.

ولا يقتصر التهميش على مرحلة عمرية معينة في حياة المرأة، بل يمتد ليطال حتى الصغيرات، كما نرى في الفيلم الفرنسي الأردني «هجرة»، وهو فيلم وثائقي بأسلوب التحريك، يروي قصة فتاة تبلغ الرابعة عشرة من عمرها، تُجبر على الزواج، وتنجب طفلًا، ثم تحاول الهرب من بغداد. لكن الطفل يموت قبل أن تحتفظ له بصورة، وتجد نفسها تائهة في عالم لا يرحم، تتعرف إليه عبر أقسى التجارب، بينما تظل ذكريات البراءة والنقاء تلوّح لها من بعيد، بعد أن فقدت كل شيء.

أما في الفيلم اللبناني «من إلى»، فنتابع حياة فتاتين في مرحلة المراهقة، تجبران على العيش مع جدتهما بعد انفصال والديهما. في هذه المرحلة الدقيقة، نُطل عن قرب على عالمهما الجديد، وتحديدًا حين تمر الفتاة الكبرى بتجربة البلوغ، وسط غياب الأم، لنشهد مشاعر التخبط والنمو الداخلي. حيث يقدم الفيلم، بواقعية شديدة، صورة عن الانفصال النفسي الذي تعيشه الفتيات، وعن أحلامهن المتلاشية في العودة إلى حضن والدتهن، والخوف الذي يرافقهن نحو مستقبل ضبابي ومربك.

كسر القوالب وتقنيات بصرية مبتكرة

على الجانب البصري، برزت العديد من التقنيات الإبداعية التي استخدمها صنّاع الأفلام لكسر القوالب التقليدية، وإضفاء أبعاد جديدة على السرد. في فيلم «مسرح الأحلام»، نجحت المخرجة في خلق مزج مدهش بين الواقع والخيال، عبر توظيف لقطات أرشيفية حقيقية تتقاطع مع مشاهد تمثيلية تُعيد تشكيل ما لم يُوثق. هذا التداخل البصري لم يكن عبثيًا، بل مدروسًا بعناية ليعكس عوالم داخلية مختبئة. كذلك كان لاستخدام الألوان الصاخبة، وتحديدًا الأحمر والأزرق، دلالات نفسية واضحة، بين الشغف المشتعل والغضب المكتوم، ما ساعد في التعبير عن صراع البطلة الداخلي. كما برزت رمزية المانيكان في نهاية الفيلم، حين يُحمل ويُلقى في غرفة مظلمة، كإسقاط على الجمود، والاستسلام، والتهميش القسري.

أما في الفيلم الوثائقي «هجرة»، فقد اختارت المخرجة نهجًا بصريًا مغايرًا تمامًا، حيث استعاضت عن المشاهد الحية بالأنيميشن، في معالجة مبتكرة أضفت على السرد بعدًا شاعريًا ومؤلمًا في آن واحد. حملت الرسوم المتحركة طابعًا رمزيًا عميقًا، حيث استخدمت الألوان المائية لتجسيد مشاعر الرقة والشفافية، وربما الهشاشة والبراءة أيضًا.

أما في «قفص تفيدة» فكان الاعتماد على الجانب البصري قويًا جدًا، فكانت المشاهد عبارة عن لوحات فنية بألوان صاخبة ساخنة، وكأنها تعبر عن صرخة البطلة المحبوسة داخل القفص، لكن دون أن تنبس بحرف. كما حمل الفيلم العديد من الرمزيات، فكان سرده بصريًا دون التركيز كثيرًا على الحوار.

وفي فيلم «جماد متحرك»، جاء المزج متناغمًا وناعمًا، بين لقطات تحرك التمثال بشكل فانتازي، وبين أداء الممثلة في المقابل، الذي عكس هدوءًا وشاعرية، يعبر بشكل كبير عن حالة الحنين والشجن التي تعيشها البطلة، التي تودع حياتها القديمة.

أما عن الأداء التمثيلي، فظهر بقوة مع بطلة فيلم «زهرة»، التي أظهرت كم المعاناة التي تعيشها بتعابير وجهها دون حوار، في حالة عامة من الصدق والواقعية تميز بها الفيلم، رغم إيقاعه الهادئ، لكنه حمل بداخله صراعًا صاخبًا وقاسيًا تعيشه البطلة. مع استخدام دلالات الألوان مثل: الأزرق، سواء في المود العام للفيلم، الذي يزيد إحساس البرود والعزلة واليأس، وهي مشاعر تعيشها بطلة الفيلم، أو بعض الموتيفات مثل: ملابس البطلة، أو في تلك البالونة الزرقاء التي تعبر عنها بشكل مباشر.

مشاركة: