قررت سينما زاوية عرض الفيلم الوثائقي المصري الطويل «أبو زعبل ٨٩»، وذلك بعد مشاركته في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الخامسة والأربعين، وحصوله على ثلاث جوائز في حفل الختام: جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل، وأفضل فيلم إفريقي، وتنويه خاص بالمخرج الشاب “بسام مرتضى”، الذي يُعد “أبو زعبل” ثاني أفلامه. في هذا الفيلم، يقدم مرتضى سردية شخصية بحتة، يبدأ خيطها الأول من واقعة سجن والده بتهمة الاشتراك في تنظيم شيوعي حرّض على اعتصامات عمال مصنع الحديد والصلب بحلوان، بينما لم يكن بسام حينها سوى طفل صغير. غير أن العقدة الحقيقية والسبب الرئيسي لتوجهه نحو تقديم الفيلم، تكمن في تبعات خروج الأب من السجن.

يفتتح بسام فيلمه، بل وحتى قبل الافتتاحية، من خلال البوستر الدعائي، الذي يتجسد فيه كطفل صغير مع والدته “فردوس”على شكل ومضات تشبه الخيالات الاستعادية من الذاكرة المشوشة التي تذكر أدق التفاصيل البسيطة رغم هشاشة الصورة. يظهران وهما في طريقهما إلى سجن أبو زعبل لزيارة الأب، ويدور ذلك الحدث الضبابي داخل “فريم شاشة سينما”، بينما يشاهده بسام كمُتفرج. ومنذ البداية، يبني البطل/المخرج اتفاقًا ضمنيًا مع المتلقي حول مدى قوة ذاكرته، وإلى أي حد أثّر هذا الحدث في مسار حياته، في الوقت نفسه الذي يتذكره ضبابيًا، نظرًا لاستعادته من شذرات متعددة في الذاكرة، نرى هذا التذكّر وقد وُضع داخل شاشة سينما. وكأنه، هو الآخر، معنا، سيشاهد من جديد بعينٍ لم ير بها من قبل ذلك الحدث المؤثر. لكنه في الوقت ذاته يظل داخل شاشة أخرى، ليظهر الكادر داخل كادر، تعبيرًا عن حالة الحبس العامة التي لم يعانِ منها الأب وحده؛ إذ يبدو أن معاناة الابن لم تكن أقل وطأة.

ويُؤكّد ذلك من خلال استعادة المشاهد وتمثيلها،، فهو وثائقي ذاتي، لكنه يتجه نحو اتجاهات أخرى تعبيرية، وهذا التيار السينمائي الذي يعتمد على توظيف الخيال لنقد الواقع، وذلك نظرًا لتركيز المخرج على الجانب المظلم في حياته، الذي ربما أراد إنارته والتحرر منه بإنتاج فيلم ذاتي، لكن إلى هذه النقطة لم يكن في الإمكان الإعلان عن تحرره وتحقيق مراده منه.

ضبابية الكادر وحضور هاملتي في الخلفية

لم يتوقف بسام عند ذلك الحد من التأطير للكادر وضبابيته لتعميق شعور الوحشة بداخله، بل التزم بأسلوب استعادة المشاهد بشكل متواصل طوال فيلمه، من خلال محاولات إعادة تمثيل بعض التجارب السيئة التي مرّ بها والده بنفسه، مثل مشهد سقوطه في حوض استحمام البهائم، مع شريط صوتي يؤكد وقوع الحدث على لسان الأب.

ودون الخوض في توصيف وتصنيف ذلك التيار السينمائي، يظل هناك معنى درامي خفيّ أكثر أهمية، يتعلّق بالإجابة على سؤالٍ يتجاوز مجرد عدم التحرر من الأب؛ فالأمر لا يقتصر على ذلك، بل يصل إلى الغوص داخل تجربة الأب في مرحلة مذبذبة من التماهي والتأثر الشديد، حدّ الوصول إلى التوحد التام مع تجربته.

هذا لا يحدث فقط في سياق استعادة المشاهد بغرض توضيح الحالة الخاصة ببطل التجربة الحقيقية لمتلقي اليوم، ولا حتى في سبيل محاولة الابن استيعاب التجربة، وإن كان هذا أحد جوانبها. يضاف إلى ذلك بُعدٌ نقدي من بسام تجاه والده في مرحلة سابقة من حياته، إلا أن ما يظل حاضرًا في الخلفية هو ذلك الجزء الضبابي الكامن داخل بسام، حيث يصل التماهي إلى حد فقدان الذات، داخل الفيلم نفسه.

فعلى السطح، يدور الفيلم حول أحداث عام 1989، ومحمود مرتضى الذي تم حبسه في سجن أبو زعبل. وهذا ما يبدو كقشرة خارجية، بينما في العمق، يحمل بسام تبعات تلك التجربة إلى عام 2024، وقت عرض الفيلم، في حالة تستدعي، بحسب ما يقدمه، بعض “الموتيفات” الشهيرة من هاملت لشكسبير. فرغم أن الأب لم يُقتل على يد العم، فإن سجنه واختفاءه من حياة الطفل، ثم خروجه لاحقًا كمثقف ومناضل يساري مهزوم، يقرر الهرب من كافة مسؤولياته العائلية والسياسية، باحثًا عن حريته المفقودة خارج مصر كلها، يجعل محمود مرتضى كشبح والد هاملت في حياة بسام يطارده في خياله الضبابي الطفولي باسئلة عن عدم وجوده، ويجعله في رحلة بحث دائمة عمن تسبب في فقدانه.

ليصبح بسام، بحسب الفيلم، طارحًا سؤالًا يشبه سؤال هاملت الشهير: “أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة”. فهو مستمر في تقديم وثائقيّ يطرح العديد من الأسئلة، التي ربما تتجاوز الحياة الأسرية والعائلية، لتصل إلى أسئلة سوسيولوجية أوسع، تتماسّ مع الجوانب السياسية، لكنها تبقى، في جوهرها، مسألة ذاتية، يطرحها المخرج في محاولة بحث عن الذات غير المفقودة التي لها بصمة واضحة في الفن وفي طريقة طرح التساؤل، لكنها تبقى ذات متماهية في ذات أخرى، وجدت الشبح المفقود، لكنها لم تجد إجابات كل اسئلتها بعد، وبخاصة ذاتيته مع تماهي جسده بنفسه ليتخطى مرحلة الشعور بمعاناة الأب ويصل به إلى توحد حقيقي، حتى على مستوى “الأنا الساردة” التي حكى بها حكاية الأب وألقى بها كلماته، نجدها بصوت بسام، بل فهي “أنا” بسام اليوم مختلطة بضبابية الطفل، وبقايا الأب، وذلك السؤال الوجودي الذي لم يجد له إجابة بعد..

البحث عن الذات بين شخصيات العائلة وشخصيات السينما المصرية

أما عن الأب نفسه، فقد حاول بسام أن يقرّب شخصية والده إلى متلقي اليوم من خلال استحضار مشاهد من أفلام مصرية شهيرة. من بينها فيلم «شحاذون ونبلاء» للمخرجة أسماء البكري (1991)، وبطولة صلاح السعدني، لا سيّما في مشهد انهيار البطل المثقف الخاسر لمعركته الاجتماعية والسياسية وبين الأب وهو يجلس من نفس الزاوية شبه منهار على كرسي في منزله.

كما استعان بمشهد آخر من فيلم «عفاريت الأسفلت» (1996) للمخرج أسامة فوزي، حيث يظهر محمود حميدة وجميل راتب كأب وابن يتسكعان في الشوارع، يتخلصان من قشور البرتقال بأيديهما في راحة وهدوء تام. ربما اختيار مثل ذلك المشهد المقتطع من فيلم توارث الابن مهنة أبيه، وذلك التقارب من سياق فيلم لم يكن به تماس عن علاقة بسام بمحمود مرتضى، لكنه به تمني عن شكل علاقتهما المفتقد، بجانب ما حمله الأب في «عفاريت الأسفلت» من جوانب خيانة للزوجة، التي قدمها بسام في أشكال عدة. حيث فردوس تلك الأم التي تحملت رحلة محمود مرتضى، ساردة إياها بذاتها في الفيلم، ليصنع القدر “حدثًا فارقًا” دراميًا بذاته، وهو موت الأم فردوس أثناء التصوير، بعد كثير من مشاهدها وظهورها الحميمي مع بسام، في لحظات سرد تضغط فيها على رقبتها محاولة منع دخول الهواء إلى حنجرتها، بعد تركيبها جهاز خاص بمرضى السرطان، وبعد ذلك العمر في معاصرة الحكاية ذاتها، التي لم تتناف مع سردية بسام، لكنها تسردها من حسها المناضل الذي دعم الاب في سجنه، وأدرك عدم عودته بعد خروجه منه، وكأنه خرج ولم يعد حسب ما رأى “محمد خان” في فيلمه عام ١٩٨٤، وما أكدت عليه الجملة الرنانة بالفيلم “اللي خرج مش هيرجع زي ما كان”.

كما يبقى لبسام مشهدًا آخر لم يقدمه بالتماس مع مشاهد سينمائية شهيرة، ولم يكن بالتأكيد إضافة مني، بل ما هو إلا إقرار بأهمية تناص مشاهده مع أخرى شهيرة، ليستدعي ذهني أثناء محاولات سرد محمود مرتضى تجربته، مشاهد أو بالأحرى شخصية “أحمد أبو المحاسن” في فيلم «سوق المتعة» لسمير سيف إنتاج عام ٢٠٠٠، الذي وباختصار شديد واختزال لكافة مضامين الفيلم الفنية، “خرج من السجن، ولكن السجن لم يخرج منه”. فهو شخص قرر بشجاعة بالغة أن يروى قصته، ومن قبلها فر من بلده وأسرته باحثًا عن حريته، لكن مرارة هزيمة السجن لم تخرج منه أبدًا، بل ولم تخرج بأثرها من أي شخص في محيطه، وربما بلور ذلك التماس غير المذكور في الفيلم بقوة، حين حكى أنه فور خروجه من السجن استأجر شقة أمام السجن مباشرة ولم يتضرر من مشاهدة السجن بكافة تفاصيله يوميًا كمنظر مطل عليه من شرفته، ربما حاول التحرر منه فيما بعد، لكن الفيلم بأكمله منذ لحظة قرار إنتاجه الشجاعة يؤكد على رسوخ آثاره، وربما اختيار بسام فترة نقل والده مجددًا من شقة لأخرى للتسجيل معه، هو الاختيار الأذكى فالأب رحال متنقل لا محالة، لم يظهر كثيرًا في حالة من السكون، بل دائم الحركة والعزال، وتتبعه الأقدار حتى في اسم قطعة الأرض التي اشتراها ليجدها على اسم زوجته والدة بسام “فردوس” بمحض المصادفة.

فهو كثير التنقل لكن يبقى كل ما يحمله من الماضي بداخله؛ سواء السجن أو العائلة حتى ولو على سبيل الأسماء المطاردة عن طريق الصدفة.

أبو زعبل سجن للجميع

ومنها، يبقى معنا إلى النهاية “أبو زعبل”، الذي كشف عن شخصيات حقيقية، داخل مشاهد حقيقية، وأخرى مُمثّلة، وثالثة استِعادية، لأنه سجن لم ينتهِ من ٨٩ إلى يومنا هذا. حتى وإن تنقّل محمود مرتضى بين كثير من الشقق، سواء تلك التي تطل على السجن أو التي تطل على حديقة مليئة بالورود، فالسجن قابع داخل كل شخصية منهم. وما يزال بسام في تساؤله الهاملتي عن كيانه، خارج حدود كادر بوستر فيلمه، وخارج شبح والده. بجملته “الأكيد أني ماليش مكان هنا.. بس خايف أسافر” بعد محاولات محاكمة لأب لم يكن في باله أن يحكام ذاته، بل أتخذ تلك التجربة السينمائية على سبيل التوثيق لما حدث له، مع استكشاف أثرها على عائلته، لكن بقى بسام في حالة هزيمة أكبر، هزيمة تمثل هزيمة جيله بأكمله الذي ربما لم يسجن بنفسه عام ٨٩، لكنه سجن بأشكال أخرى مختلفة، بين علاقته المنطلقة مع والده كما صورها أسامة فوزي التي لم تتحقق، وعن فردوس والدته الذي لم ينلها كجنة أرادها ولم يصل إليها.

وما بين هذا وذاك، لم يُفصح داخل فيلمه عن أحلامه، ولا عن علاقاته العاطفية، ولا عن مآسي جيله، بل كانت هناك تماسات… مع مشاهد فنية لآخرين، ومع شخصيات عائلية، أثمرت عن فيلم وثائقي جذّاب وحسّاس، عن شخص مفقود بين انهزامات وإنجازات الغير. أو، لو مدَدنا الخط على استقامته، فهو يُمثّل جيله بأكمله نجح فردًا منهم اليوم في صناعة فيلم عن كل ذلك التخبط والهزيمة الكامنة بداخله. حتى ولم يصل إلى إجابات شخصية مرضية عن وجوده الفعلي، أو ضياعه بين طفولته وأبيه وفقدان أمه، يكون أو لا يكون، نعم هي المسألة، ولكن شجاعة البوح تكفي بأن تكون مسألة أخرى ذات أهمية تستحق الاحتفاء.

مشاركة: