“إن الذي نريده سينما مصرية. أي سينما تتعمق حركة المجتمع المصري وتحلل علاقاته الجديدة، وتكشف معنى حياة الفرد وسط هذه العلاقات، ولكي تكون لدينا سينما معاصرة لابد أن نمتص خبرات السينما الجديدة على مستوى العالم كله.”
هكذا تحدث البيان الأول الصادر عن جماعة السينما الجديدة. لم تكن هذه الجماعة مجرد حركة فنية عابرة، بل كانت انعكاسًا مباشرًا للمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها مصر بعد هزيمة 1967، والتي ألقت بظلالها على صناعة السينما. ويمكن اعتبار هذه الجماعة بمثابة النواة الحقيقية للحركات المستقلة التي تكونت فيما بعد.
ورغم أهميتها، لطالما صُنفت هذه الجماعة على يسار المشهد السينمائي، خاصةً مع ارتباطها بمجلة “الغاضبون”، التي كانت تُنشر ضمن صفحات “الكواكب”. كما حملت أفلام منتميها من المخرجين أفكارًا ثورية متمردة على ما قدمته السينما التقليدية التي ارتبطت بالواقعية الاشتراكية. ولم تقتصر رؤية الجماعة على المخرجين فقط، بل شملت أقلامًا نقدية صادقة سعت لفهم وتقييم المشهد السينمائي من منطلق الغيرة عليه، بهدف دفعه ليكون أكثر تعبيرًا عن الشارع المصري ومتماشيًا مع طموح صناعه الجدد.
خلفية المشهد السينمائي
شكلت فترة الستينيات من القرن العشرين نقطة فاصلة في مسيرة السينما المصرية. ففي ظل توجه الدولة نحو القومية ودعمها، هيمنت المؤسسة المصرية العامة للسينما على مفاصل الإنتاج حتى عام 1971. وخلال هذه الفترة، تربع على عرش الإخراج أسماء بارزة مثل صلاح أبو سيف، كمال الشيخ، وعاطف سالم وحسن الإمام وغيرهم من الذين شكلوا ملامح “الواقعية الاشتراكية” بطرق مختلفة في استحضار للتجربة السوفيتية.
ورغم سيطرة المؤسسة، شهدت السينما حالة من الشد والجذب، خصوصًا مع تراجع إيرادات الأفلام ذات السمة الفنية، مما دفعها لإنتاج أفلام “خفيفة” لتحقيق ربحية. هذه الأزمة الاقتصادية الخفية تفجرت بعد صدمة هزيمة 1967، التي غيرت خريطة الإنتاج السينمائي بالكامل، وجعلت من إنتاج الأفلام الخفيفة أمرًا غير صالح للتنفيذ في ظل المناخ المهزوم.
في ظل كل هذا، كان هناك جيل جديد من السينمائيين قد تخرج من المعهد العالي للسينما، الذي تأسس عام 1957. هؤلاء الشباب، ورغم شهاداتهم وامتلاكهم للمعلومات النظرية، لم يحظوا بالفرصة للانخراط في صناعة السينما التي رأت فيهم أنهم يفتقرون للخبرة العملية ويرفضون صورتها القائمة ورؤى من يسيطرون على مفاصلها، هؤلاء الذين يشكلون موضوعات الأفلام والأساليب التي تُصاغ بها الصورة السينمائية. شعر هؤلاء الشباب أنهم يريدون تقديم أفلام تهم المواطن المصري، تعبر بصدق عن الإنسان المصري ومشكلاته ونظرته للحياة بطريقة متمردة تحمل سمات مغايرة عن ما قدمته السينما في تلك الفترة.
تبلورت جماعة السينما الجديدة في ظل فوران وحضور للنشاطات المتحررة من قيد النظامية الحكومية مثل جمعية الفيلم ونادي سينما القاهرة، تلك النشاطات التي مهدت الطريق إلى ظهور جمعيات أخرى لاحقة من بينها حركة جماعة السينما الجديدة التي عانى أعضائها من تعثر تنفيذ مشروعاتهم الفنية.
“علي بعد الخالق، رأفت الميهي، محمد راضي، أحمد متولي، نبيهة لطفي، سامي المعداوي، سامي السلاموني، سمير فريد، فتحي فرج، فؤاد التهامي” هؤلاء هم مؤسسي جماعة السينما الجديدة اسماء جمعت صناع سينما ونقاد يجمع بينهم الشباب والفكر المتمرد.
النقطة المضافة التي قدمتها جماعة السينما الجديدة هو انخراطها في الإنتاج السينمائي، حيث بعد انحسار الإنتاج السينمائي على عدد من الشركات تحت مظلة المؤسسات المصرية العامة للسينما، وصلت جماعة السينما الجديدة إلى إبرام اتفاق شراكة مع المؤسسة العام للسينما، عن طريق الحصول على دين على الجماعة يضمنه لدى البنك لفترة محدودة وعليه أن تدفعه بالكامل من الإيرادات وفي ضوء هذا الاتفاق تم إنتاج فيلمين طويلين “أغنية على الممر” إخراج علي عبد الخالق، الظلال في الجانب الآخر” إخراج المخرج الفلسطيني غالب شعث عام 1971.
معركة خارج الكاميرا… الصدام مع منظومة الصناعة
في عام 1968 أنتجت المؤسسة المصرية العامة للسينما فيلم “القضية 68” إخراج صلاح أبو سيف، تدور أحداث الفيلم بالفعل حول عمارة سكنية على وشك الانهيار، ويحاول سكانها، المكونون من طبقات اجتماعية مختلفة، إيجاد حل لأزمتهم.
حمل فيلم “القضية 68” رمزية كبيرة ومحاولة لتقديم نقد من داخل المؤسسة للهزيمة التي ترتب عليها تصاعد أصوات رافضة للرؤية التي تقدمها السينما وإنتاجاتها، في عام نفسه عُرض فيلم “المتمردون” للمخرج توفيق صالح، ذلك المخرج الذي كان يقدم إنتاجاته تحت مظلة المؤسسة العامة للسينما لكن كان يواجه صعوبات في تمرير أفلامه وأفكاره.
يمكن قراءة تجربة جماعة السينما الجديدة بشكل جزئي في ضوء تجربة توفيق صالح، حيث واجه العديد من الصعوبات ربما يكون ذلك لأنه وحيدًا في مقابل المؤسسة والأقلام الرافضة لأي صوت يغرد خارج السرب حتى خرج من مصر إلى أنظمة أخرى آملاً أن يعبر عن صوته ورؤيته للسينما بحرية.
ربما ساعد جماعة السينما الجديدة التكتل الذي كانوا يستندوا عليه حيث امتلكوا الفكر والرؤية وكذلك الحرفة وأيضا الرؤى النقدية من خلال الأقلام النقدية التي كانت من ضمن المؤسسين وهو ما عزز مكانة تلك التجربة، وما زاد من أهميتها هو النجاح الذي حققه فيلم “أغنية على الممر”، الذي رسم ملامح مغايرة لرؤية صناع السينما التقليدية للهزيمة والحلم الذي تحطم، حيث رأه من داخل الجنود التائهين في الصحراء.
بلورت أفلام “أغنية على الممر”، “الظلال في الجانب الآخر”، الحاجز”، “جفت الأمطار” رؤية هؤلاء الشباب المتمردة على الهيمنة الأبوية والرؤية التقليدية التي قدمتها الأفلام المعاصرة لها، حيث حملت تلك الأفلام نبرة انتقاد للسلطة الأبوية وهو ما ظهر في نماذج الشخصيات وعلاقاتهم الرافضة للسلطة الأبوية.
كانت الجماعة تواجه سلطة سياسية وثقافية ممثلة في المؤسسة العامة للسينما، والتي كانت توجه الإنتاج بما يخدم توجهات الدولة. هذه السلطة الأبوية لم تكن مجرد كيان، بل كانت رمزًا لعلاقة متأزمة بين الحاكم والمواطن، وهي العلاقة التي حاولت الجماعة تجسيدها في أفلامها. ففي فيلم “الحاجز”، تجسدت هذه السلطة في شخصية الأخ الأكبر الذي يختار مصير أخيه الأصغر. وفي فيلم “أغنية على الممر”، كانت السلطة الأبوية غائبة ومتخلية، تاركة الشباب يتوه في الصحراء. وفي فيلم “جفت الأمطار”، كانت السلطة المتحكمة تقتلع الناس من أرضهم.
تجاوزت تجربة أفلام جماعة السينما الجديدة تقديم رؤية تمردية وصوت أقرب إلى الإنسان المصري ومشكلاته حيث خرجت من دائرة المشاهدة الاعتيادية للأفلام في دور العرض السينمائية وكان لنادي سينما القاهرة نصيب في عروض أفلام جماعة السينما الجديدة البعض منها قوبل بالترحيب مثل فيلم “أغنية على الممر” في حين واجهت أفلام أخرى نقدًا لاذعًا واستقبالا مرتبك مثل فيلم “الحاجز” للمخرج محمد راضي، حيث وصف بأنه سيريالي أكثر من اللازم.
لغة سينمائية ترفع شعار التمرد
تطرح هذه التجربة الفنية رؤية حول تلقي أفلام جماعة السينما الجديدة، التي قدمت مشكلات الشارع وهموم الإنسان المصري بطريقتها الخاصة والتي أيضا كانت تفتقر إلى نضج التجربة التقليدية. كانت هذه السينما، على غير عادة الجمهور المصري، تحمل لمسة تسجيلية واضحة وسردًا غير تقليدي، كما كان إيقاعها فنيًا مختلفًا وأكثر تأملًا، وهو ما جعلها تبدو بطيئة ومحيرة للمشاهد.
اعتمدت أفلام الجماعة على الرمزية التي كانت حاضرة بقوة، فضلًا عن السمات الانهزامية لأبطالها الباحثين عن المثالية والمدينة الفاضلة الأفلاطونية ورفض البطولات المزيفة. ورغم أن هذه الأفكار تمثل جوهر “السينما النقدية” التي أرادوا تقديمها، إلا أنها كانت غير اعتيادية بالنسبة للجمهور الذي اعتاد على أفلام بسيطة ومباشرة.
على سبيل المثال، كان فيلم “أغنية على الممر” في صميم الهزيمة، لذا حظي ببعض الترحيب. في المقابل، حملت أفلام أخرى ارتباطات اجتماعية أكثر حتى وإن كانت تحمل رمزية سياسية مثل “جفت الأمطار” و”الظلال في الجانب الآخر”. ووصلت هذه النظرة إلى أقصى تجلياتها في فيلم “الحاجز” الذي كان يحمل رؤية مجردة وإنسانية رافضة للسلطة الأبوية، وهو ما جعله يبدو “سيرياليًا” وواجه استقبالًا مرتبكًا من قبل الجمهور. كل ذلك في ظل الألم الذي حمله النفوس على أثر الهزيمة، ظللت تلك النظرة الرثائية تجربة جماعة السينما الجديدة.
ربما احتاج الجمهور الاعتياد على مشاهدة أفلام جماعة السينما الجديدة لكنها لم تكن تلقى ترحيبا مؤسسيا رغم الشراكة في الإنتاج التي تحققت في ظل سلطة الأقلام المطالبة بالدعم لهؤلاء الشباب الذين يحملون رؤية مغايرة للرؤى التقليدية التي تم اختبارها في السابق، بلور تعامل السلطة مع جماعة السينما الجديدة محاولة الاحتواء التي لا تنتهي عادة نهاية سعيدة، وهو ما شهده معرض فيلم “الظلال فى الجانب الآخر” بحسب دراسة سمير فريد التي تحدث فيها عن تجربة جماعة السينما الجديدة.
أشار فريد إلى أنه مُنع بقرار من وزير الثقافة في حينها الأديب يوسف السباعي بمنع دخوله مدينة جمصة هو ورأفت الميهي، تلك المدينة التي أقيم بها مهرجان جمصة للأفلام الروائية الطويلة، وكان فيلم “الظلال فى الجانب الآخر” هو فيلم الافتتاح، وكيف انهالت أقلام الثورة المضادة، كما وصفها فريد، بعنف على الفيلم وجماعة السينما الجديدة والاتهامات التي لاحقتها بإفساد الذوق العام إلى حد الخيانة والعمالة، ربما تكون تلك الاتهامات جاهزة لأي تجربة تحاول أن تغرد خارج السرب، ربما انتهت لقاءات جماعة السينما الجديدة التي استمر لسنوات كل ثلاثاء اسبوعيا وتحولت مسارات صانعيها لكنها شكلت بذروة لتجارب مستقلة حظيت باهتمام فيما بعد ذلك بما يقارب عشرين عامًا كما حدث مع تجارب الواقعية الجديدة في الثمانينات التي وجدت أقلام نقدية تساندها شكلت جزءًا من جماعة السينما الجديدة، التي رغم مرور العقود تقدم رؤية جديدة للسينما المصري لكل من يطرق باب تجاربها حتى يتعرف عليها.
إرث منسي وروح مستمرة
لم تكن تجربة “جماعة السينما الجديدة” مجرد حركة فنية انتهت، بل كانت بذرة فكرية وفنية لم تذبل في النسيان. بفكرها المتمرد وأسلوبها الذي رفض التقليدية، فتحت الجماعة الباب أمام مفهوم السينما المستقلة التي لا تكتفي بتقديم الترفيه، بل تتخذ موقفًا نقديًا تجاه المجتمع والسلطة. ورغم أن صانعيها عانوا من الرفض المؤسسي وتحديات الإنتاج، ورغم أن أفلامهم ظلت بعيدة عن الجمهور، إلا أن تأثيرها ظل كامنًا في أرشيف السينما المصرية. فما أشبه اليوم بالبارحة، حيث بعد مرور قرابة نصف قرن، تستعيد السينما المصرية ذكرى الجماعة من خلال تجارب مستقلة جديدة، حاولت العبور للجمهور لكنها ظلت عالقة في منطقة ضبابية. اختفى بعض من صانعيها، في حين سلك البعض الآخر طريقًا مغايرًا لإثراء تجربته. وهو ما سنغوص فيه في الجزء الثاني من المقال.

ناقدة سينمائية