يعد مسلسل «كتالوج» أحدث إنتاجات نتفليكس المصرية، وهو من إخراج وليد الحلفاوي، وبطولة محمد فراج، وتارا عماد، وسماح أنور، وخالد كمال، إلى جانب الطفلين علي البيلي وريتال عبد العزيز.

تدور أحداث المسلسل حول عائلة صغيرة تفقد الأم بعد معاناة مع المرض، ليفاجأ الأب بأنه للمرة الأولى يتحمّل مسؤولية أولاده، الذين بالكاد يعرف عنهم شيئًا. ومن هنا، يبدأ في محاولة تجاوز هذه المحنة بمساعدة شقيقه، وشقيق زوجته الراحلة، ومربية الأطفال.

تراجيدي كوميدي… لكن بكثير من التخفيف

يمزج مسلسل «كتالوج» بين الكوميديا والمأساة، فهو ينتمي إلى نوع يُعرف بالـ”تراجيدي كوميدي” (Tragicomedy)، وهو نوع درامي أو أدبي يجمع بين عناصر الحزن والمعاناة من جهة، وعناصر الفكاهة والضحك من جهة أخرى، ليمنح المشاهد تجربة إنسانية مركّبة، تجعله يضحك ويدمّع في الوقت ذاته.

الـ”تراجيدي كوميدي” نوع غني ومعقد، يتميز بسمات تجعله مختلفًا عن الكوميديا أو التراجيديا الخالصة. في جوهره، نجد مزيجًا من المشاعر المتناقضة؛ فقد تضحكك بعض المشاهد في قلب لحظات حزينة للغاية، أو تجد نفسك تتأثر بلحظة إنسانية وسط موقف ساخر. هذا التناوب بين الخفة والجدية يجعل التجربة عاطفية ومُركبة، حيث يمكن للضحك أن ينفجر في لحظة ألم.

أما الشخصيات، فهي غالبًا ما تكون مركبة ومعقّدة، لا تنتمي تمامًا إلى الأبيض أو الأسود. تصرفاتها قد تبدو مضحكة أحيانًا، لكنها تمسّك حين تنهار أو تنكشف هشاشتها. يعيش المشاهد معها صراعات إنسانية قريبة من نبض الحياة، تجعل التفاعل معها عميقًا وصادقًا.

النهايات في هذا النوع ليست تقليدية، فلا تُختتم القصة دومًا بسعادة أو مأساة. أحيانًا، تُغلق الأحداث على لحظة رمادية أو سؤال مفتوح، تتركك في حيرة، تفكر وتتأمل فيما مضى وما يمكن أن يكون.

هذا النوع أيضًا يحمل بعدًا فلسفيًا أو إنسانيًا، يحاول من خلاله إيصال أفكار عميقة عن الحياة، والموت، والغربة، والمعنى. الكوميديا في هذه الحالة لا تزيل الحزن، لكنها تتيح له أن يُقال بطريقة أخف.

ولعل أجمل ما في التراجيدي كوميدي أنه يُشبه الحياة نفسها، بما تحمله من تقلبات لا تُحسم بالضحك أو البكاء وحدهما. لهذا السبب، يشعر كثير من المشاهدين أنهم “رأوا أنفسهم” في هذه الأعمال، بكل ما تحمله من صدق وتناقض وإنسانية.

تلك هي سمات الـ”تراجيدي كوميدي”، لكن ما بين هذه السمات، وما قدّمه مسلسل «كتالوج» الكثير من الاختلافات، التي تدل على تناول مخفف، الهدف منه إرضاء كل الأذواق، حتى وإن أضر بالعمل على المستوى الفني.

فرغم أن «كتالوج» يتناول موضوعًا شديد الحزن كالفقد، إلا أنه لا يغرق في هذا الحزن سوى لفترة محدودة، سرعان ما تُكسر بالكوميديا. ذلك لأن التركيز ليس على الفقد في حد ذاته، بل على صعوبة التأقلم مع دور الأب، في ظل أعراف اجتماعية وتقسيمات جندرية تُحمّل الأم وحدها مسؤولية الرعاية الكاملة للأطفال.

من المستحيل مشاهدة «كتالوج» دون أن يتبادر إلى الذهن مسلسل «البحث عن علا» بشكل أو بآخر. في العملين، هناك شخصية فقدت شريكها، وتبدأ من جديد مع طفلين، ولد وبنت، وتُضطر إلى لعب دوري الأب والأم في آنٍ واحد. وفي الحالتين، نتابع القصة داخل بيئة “محمية” بالكامل، لا مشاكل مادية تُذكر، الأطفال يذهبون إلى أفضل المدارس، ذوو تربية مثالية، حتى مشاكل المراهقة لديهم بسيطة، فلا توجد أي أزمة نفسية حقيقية ناتجة عن فقدان الأم في «كتالوج»، ولا حتى بسبب طلاق الأم من الأب في «البحث عن علا».

يبدو وكأن هناك اتجاهًا واضحًا لإظهار مصر لجمهور المنصة بصورة معينة: لا يوجد لدينا سوى الطبقة الوسطى العليا أو الطبقة الغنية، والأبناء جميعهم في مدارس إنترناشونال.

ومع التركيز الأكبر على الجانب الكوميدي من التراجيدي كوميدي، والابتعاد عن تناول الفقد بجدية مأساوية، يجد المشاهد نفسه أمام لا شيء؛ صراعات تُحلّ في لحظتها، ومشاكل مخففة للغاية، تُفقد الجانب التراجيدي ثقله، وتضفي طابعًا من التبسيط المُخل.

الأم المقدسة: خطاب لا يهتز

❞ لا يتوانى الخطاب الإعلامي الحديث والمعاصر عن إضفاء القدسية على الأم، وهي دائمًا أم واحدة ثابتة، والعددية صفة منفية عنها، وهو ما يجعل “الأم” صفة مجردة، قائمة بذاتها وفي ذاتها، غير مرتبطة بطبقة أو مكان أو سياق سياسي ❝ — شيرين أبو النجا، معضلة الأمومة

يتمسّك مسلسل «كتالوج» بصورة هذه الأم المقدسة، فالأم الراحلة “أمينة أبو الفضل” (ريهام عبد الغفور) ليست فقط أمًا مثالية لابنها وابنتها، بل كذلك صاحبة قناة يوتيوب بعنوان “كتالوج أمينة”، تقدم فيه محتوى عن الأمومة والتربية. حملت أمينة مسؤولية المنزل والأطفال طوال حياتها، وحتى خلال فترة علاجها من مرض السرطان، بينما يقف زوجها على هامش هذه الأسرة.

يُقدَّم “يوسف القاضي” (محمد فراج) كذلك بوصفه أبًا مثاليًا على الكثير من المستويات، فهو رجلًا محبًا لزوجته، ومخلصًا تمامًا، يقضي أغلب وقته في عمله ليكفل لعائلته حياة كريمة تشمل العيش في أرقى أحياء القاهرة، والالتحاق بالمدارس الدولية، وغيرها من الرفاهيات.

لا تتذكر شخصيات المسلسل “أمينة” إلا بمثاليتها الشديدة، واهتمامها بكامل تفاصيل حياة ابنيها، من تنظيم وجبات الطعام، وحتى زينة شهر رمضان، بشكل يوحي بالسهولة والبساطة. وعلى الجانب الآخر، وحتى خلال مرضها الشديد، تبدو طوال الوقت جميلة وأنيقة، امرأة لا تشوبها شائبة سوى المرض العضال.

ويكافح “يوسف” في غيابها لتقديم الحدود الدنيا من الرعاية لابنه وابنته، فينسى على سبيل المثال إطعامهما أكثر من مرة، وهي رعاية لا ينساها حتى من يقتني حيوانًا أليفًا. ومع ذلك، يرى صُنّاع المسلسل أن هذا متوقّع من أب، طالما أنه “أب” غير معتاد على الأدوار الرعائية.

يستبدل صناع المسلسل “أمينة” بكل من “يوسف”، والخال، والعم، ومربية الأطفال، بالإضافة إلى معلمة في المدرسة تصبح صديقة للعائلة. ولا يستطيع كل هؤلاء القيام بأدوار الأم المتعددة، مما يكرّس الصورة الشائعة بأن الأم كائن أسطوري قادر على القيام بعشرات المهام المتزامنة، والموازنة بينها، والنجاح فيها باستمرار.

وهنا تُطرح أسئلة ضرورية: ماذا لو لم تكن “أمينة” تلك الأم المثالية؟ هل كان سيفتقدها ابنها وابنتها؟ هل كان سيلتاع على فراقها زوجها؟

يربط المسلسل في كل حلقة بين مدى مثالية “أمينة”، والفراغ العملاق الذي تركته خلفها، وإخلاص “يوسف” في غيابها، ومحاولاته المتعددة لسد هذا الفراغ، كما لو أن المسلسل يستنكر أن تستحق أم “عادية” الحزن عليها، أم غير مقدسة، لا تقوم بكل الأدوار الرعائية، ولا تحافظ على جمالها وأناقتها، وهي تقسم وقتها بعناية بين عملها كمؤثرة على مواقع التواصل، وأمومتها، واهتمامها بزوجها.

وبرغم كون الأمومة هي المركز الذي تدور حوله أحداث المسلسل، وغياب رمزها يهزّ عالم أبطاله بشدة، وتحرك الحبكة محاولةً استعادتهم لتوازنهم، إلا أن الأمومة فيه سطحية للغاية، أمومة الشعارات الرنانة والأكاذيب التي روجتها الأبوية والذكورية لتكبيل المرأة وترويضها. فالابتعاد عن هذه المثالية يعني — في عُرف المسلسل — خروج هذه المرأة من جنة الأمومة.

وربما لا يدرك صنّاع المسلسل خطورة استمرارية الترويج لهذه الصورة المثالية، لكنهم ساهموا في إعادة إنتاجها في عملهم، دون أن يفكر أي شخص: هل تستحق “أمينة” محبة عائلتها لأنها كانت “أمًا مثالية”، أم لأنها ببساطة… كانت زوجةً وأمًا؟

 

مشاركة: