بالتأكيد، اختيار “مينا مسعود” لبطولة فيلم مصري الإنتاج هو أمرٌ لافت، وربما يكون أحد أهم ارتكازات الفيلم الدعائية، كعاملٍ أساسي في التسويق، باعتباره نجمًا عالميًا من أصول مصرية. ومن هنا، يستغل فيلم «في عز الضهر»، من إنتاج شركة الإخوة المتحدين للسينما، وتأليف كريم سرور، وإخراج مرقس عادل، هذه الحيلة، وإن جاء ذلك متأخرًا بعض الشيء.

فقد لمع نجم مينا مسعود في مصر بعد عرض فيلمه الشهير «علاء الدين»، الذي شارك فيه النجم ويل سميث، وربما كان تأخر عرض الفيلم أحد أسباب غياب الصدى الفعلي له.

ولكن تظل الأسباب الفنية هي الأهم، حيث إن الاعتماد على النبرة الدعائية ذات الطابع العالمي لم يكن كافيًا، ما دفع صنّاع الفيلم لمحاولة محاكاة الطابع الأجنبي في السينما من خلال التصوير بين لندن وباريس، وهكذا، على الرغم من أن الركيزة الدرامية تدور حول عودة أحد أفراد المافيا إلى مصر لتنفيذ مهمة ذات طابع استخباراتي.

هوية مفقودة لشخصية البطل

بداية الأمر، تلك الثيمة التي تعتمد على رجوع مصريّ الجذور إلى وطنه، بخلاف شق الخيانة وما شابه، تتقاطع كليًا مع بطل العمل نفسه. ربما لا نعلم معايير اختيار البطولة، أو ما إذا كان العمل قد كُتب خصيصًا للبطل أم لا، ولكن المؤكد أنه اختيار يعتمد على هذا التقاطع كعنصر رئيسي، لا يكفي وحده.

فمينا مسعود لا يمتلك من المقومات التمثيلية ما يؤهله لبطولة فيلم من المفترض أن شخصيته الرئيسية تحمل صراعًا أزليًا نحو الهوية، وهو صراع يتطلب جهدًا كبيرًا في تمثيل التوتر الداخلي بين ما يُنفِّذه وما يسعى إليه، بين حنينه إلى وطنه ودهائه في اللعب على “برناديت” (شيرين رضا)، وحبه البريء لـ “جميلة عوض”، ومشاعره تجاه شركائه وأصدقائه ديفو وساندرا (محمود حجازي، إيمان العاصي)، وحالة التذبذب بين أصوله وعمله.

فهو لم يُقدِّم أي أداء تمثيلي يوضح ملامح شبكة علاقاته، أو دهائه، أو الجوانب الطيبة داخله، وغير ذلك. نعم، هو يمتلك قبولًا وحضورًا أمام الكاميرا، لكن دون موهبة قوية قادرة على إيصال المشاعر وتطورات الشخصية.

إلى جانب ذلك، فهو لا يمتلك الكثير من المقومات التي تؤهله لأن يكون عضوًا هامًا في المافيا، يقوم بأهم العمليات الدولية؛ إذ بدا واضحًا استخدام دوبلير في كثير من المشاهد بدلًا منه، فضلًا عن أن تكوينه الجسدي الضئيل لم يكن مقنعًا على الإطلاق بأنه بمفرده من ينفّذ هذا الكم من الضربات ضد رجال أقوياء.

وبما أننا بصدد تقييم الأداء التمثيلي، فلا بد من الإشارة أولًا إلى أن كتابة الشخصيات جاءت على سبيل الأنماط؛ إذ قدّمت شيرين رضا أداءً قويًا في دور “برناديت” الصهيونية، لكنها مكتوبة بنمطية شديدة، تُقدِّم هي وكل من معها رسائل حول الإخلاص للوطن والعودة للجذور.

ومن هذه الزاوية، رُسمت شخصية “ساندرا” (إيمان العاصي) غير محددة الهوية أيضًا، لتأكيد الجانب نفسه. ورغم محاولات العاصي في التمكن من اللكنة اللبنانية، ومحمود حجازي في إتقان الجزائرية، إلا أن التركيز الكبير على طريقة النطق أفقدهما التركيز في التعبير عن الشخصيات وتمثيلها، حيث لا مسار واضحًا أو متطورًا لها.

فهم أصدقاء حمزة ومعاونوه، ثم لا يوجد رسم واضح أو مشاهد كافية توضح طبيعة علاقة حمزة بـ”ساندرا”، لكن من خلال الاستنتاج فقط يمكن أن نلاحظ أنها تحبه. وفي غمرة محاولات رسم مفاجآت داخل الفيلم، تخونه لصالح برناديت، ثم تعود لتعاونه، دون تفسير مقنع أو تطور منطقي للشخصية. أما “ديفو”، فهو مخلص على طول الخط دون مفاجآت، لكنه غير مؤثر في أي حدث، باستثناء مساعدته في مشهد النهاية.

يُضاف إلى ذلك كثرة إقحام المفاجآت، في محاولات خطف “ريم” (جميلة عوض)، وإنقاذها، ونزولها إلى مصر، بشكل غير مرتب أو متدرج. وفي الأساس، فإن قصة حبها مع حمزة هي قصة غير مفهومة الأبعاد أو المبررات؛ فهي وُجدت فقط كعنصر نمطي يثري الجانب المشرق في حياة حمزة المليئة بالمخاطرات والمغامرات.

خلق دور تمثيلي رغمًا عن الفيلم

واحدة من أكثر مفارقات السيناريو غرابة أن حمزة الكاشف، أهم وأقوى فرد في المافيا الدولية، لا يعرف كيف تُفتح خزن البنوك، لأنه يدخل دائمًا ومعه المفتاح!

هكذا برّر الكاتب كريم سرور وجود شخصية “أفلاطون”، التي جسّدها بنفسه في الفيلم، كصديق طفولة قديم لحمزة من الأحداث، قادر على فتح الخزن.

“أفلاطون” هو مجرم مصري فقير، يلجأ إليه حمزة ليعاونه في عملية كبيرة لصالح برناديت، صاحبة النمط الصهيوني. والمبرر؟ أن حمزة، رغم كل ما خاضه من مغامرات دولية، لم يواجه يومًا موقفًا استدعى أن يتعلّم مثل تلك الحرفة البسيطة، لذا يستعين بصديقه القديم، الذي يتخلى عنه لصالح قوى الشر في الفيلم، ثم يعود ويتحالف معه مجددًا، ليَلقى حتفه في النهاية، بشكل عبثي لا مبرر لوجوده أصلًا. وهو الخط نفسه غير المفهوم، حيث كل شخصية تتخلى، ثم تعود لتعاون، وهكذا…

ماضٍ مبعثر

الأصل في الحكاية أن معظم الشخصيات بلا جذور، وتحمل من الخيانة مفردات كثيرة، بينما حمزة وحده هو من يمتلك جذورًا وأصولًا، لكنه فقط ينتظر أن يتأكد منها.

لذا، خلق الفيلم ماضيًا للشخصية يظهر بين مشهد وآخر كفلاش باك غير واضح المعالم؛ إذ يتبيّن أنه ابن رجل مصري يُدعى “حسن الكاشف”، وله أخ يُدعى “شريف اللحياني” (بيومي فؤاد)، لا يختلف نمطه كثيرًا عن سابقيه، بصفته من أهم أعضاء الجماعات المتطرفة في مصر، ومتآمر وخائن لحساب مصالحه الشخصية.

لكن ذلك الماضي لم يُوضّح بشكل كافٍ أن حمزة مصري الأصل، أو أن عدم اعتراف والده به تأخر بسبب مؤامرة من عمه المحامي، الذي عاونه “بكر” (محمود البزاوي) في إخفاء الحقيقة، وإلقاء حمزة في الأحداث، ثم هروبه ورحلته التي ذكرناها سلفًا.

كل ذلك جرى دون وضوح كافٍ لأسباب عدم اعتراف الأب به وهو على قيد الحياة، أو لفهم خلفية تلك المؤامرة، أو كيفية هروبه وسفره، أو حتى مبررات وجود (إيهاب فهمي) في مشاهد الماضي.

بحث عن هوية البطل والفيلم معًا

ما يظهر في «في عز الضهر» ليس مجرد محاكاة شكلية للسينما العالمية، بل هو انعكاس لمعضلة أعمق تتعلق برؤية الإنتاج المحلي لهويته وحدود طموحه. فالرغبة في تقديم فيلم بإيقاع دولي وصورة مبهرة لا تعني بالضرورة أن الجمهور سيتلقى العمل على أنه عالمي فعليًا، بل قد تكشف الفجوة بين الشكل والمضمون.

في النهاية، «في عز الضهر» هو عمل يطمح للعالمية، لكنه لم يُوفَّق في ترسيخ هويته؛ إذ يقدّم رسالة عن الجذور والعودة للوطن، بينما يبدو هو نفسه تائهًا بين صورته الخارجية وبنيته الداخلية. وذلك يعود لعدة عوامل متداخلة:

أولها، أن النموذج الذي يُحتذى به ليس نابعًا من بيئة محلية تُعيد إنتاج ذاتها، بل مستورد بالكامل من منظومات سردية غربية، تختلف في قواعدها وبُناها وطبيعة جمهورها. لذلك، حين يحاول صنّاع الفيلم المحاكاة، يغيب الوعي بأن تلك الأعمال تنبع من أنظمة إنتاج ضخمة، وتقاليد سردية مختلفة، وتمويل وتوزيع عالمي مغاير أيضًا.

ثانيًا، إشكالية ضعف النص. فالسيناريو لا يمتلك من المرونة والعمق ما يسمح له بمواكبة التحولات الدرامية، سواء كانت محلية أو عالمية. كما أن غياب البناء المعمق للشخصيات، والاعتماد على التقلبات المفاجئة والمواقف المفتعلة، يجعل الفيلم أكثر هشاشة.

ثالثًا، الثقافة البصرية التي يستند إليها الفيلم تعتمد على مراكمة الصور لا على تكوينها؛ أي أن الفيلم مشغول بالشكل الخارجي، بين المدن المختلفة ومشاهد الأكشن الكثيرة وتصميمات الملابس، أكثر مما هو منشغل ببناء دلالة للصورة داخل السياق الدرامي. وبهذا، يتحوّل البذخ البصري إلى غاية، لا وسيلة درامية.

ليقدّم الفيلم في النهاية رسائل مباشرة عن الهوية والجذور، بينما هو نفسه فاقد، إلى حدٍّ كبير، لهويته.

مشاركة: