فيلم لا يشبه غيره في مسيرة السينما المصرية. قد تُغلف هذه العبارة بعض المبالغة، لكنها حقيقة سيدركها كل من يشاهد «عائشة لا تستطيع الطيران»، للمخرج مراد مصطفى، الذي ينتقل بهمه في الحديث عن الأفارقة المهمّشين، عبر مرثية بطيئة، إلى السينما الروائية الطويلة، في مشاركة تاريخية تُعيد مصر إلى مسابقة “نظرة ما” في مهرجان كان السينمائي الدولي، للمرة الأولى منذ تسعة أعوام، حين افتُتح فيلم «اشتباك» للمخرج محمد دياب، ثاني أهم مسابقات المهرجان الفرنسي الأشهر.
يتتبع الفيلم، متمهل الإيقاع شحيح الحوار، قصة عائشة، مهاجرة سودانية تبلغ من العمر 26 عامًا، تعمل مقدِّمة رعاية في حيّ عين شمس بالقاهرة؛ وهو حيّ أصبح، بمرور الوقت، عنوانًا للمهاجرين الأفارقة في المدينة منذ سنوات طويلة. حيّ لا يعرف الهدوء، يشهد صراعًا ممتدًا على السطوة والسيطرة بين الأشقياء من سكانه القدامى، ومن يرون في أنفسهم قوة منبوذة، لكنها ذات تأثير كبير على الأرض، رغم اختلاف جنسياتهم وتوحُّد لون بشرتهم السمراء.
في مقابلة مع موقع مهرجان كان، أوضح المخرج مراد مصطفى أن الفيلم مستوحى من تجربته الشخصية، حين لاحظ وجود مجتمع كبير من المهاجرين الأفارقة، وأراد من خلال «عائشة لا تستطيع الطيران» تسليط الضوء على قصص هؤلاء الأشخاص، الذين غالبًا ما يتم تجاهلهم في السينما المصرية. وهذا هو السبب الأول عند الحديث عن تفرد الفيلم، إذ يُقدّم البطولة لممثلة أفريقية (بوليانا سيمون)، أجادت تمامًا وأمسكت بكل مفردات الشخصية، ويفسح لها المجال في دور رئيسي غير نمطي، يتسم بالجرأة والمغامرة، في ظل نظرة دونية من المجتمع لأصحاب البشرة السمراء بشكل عام.
تقع عائشة ضحيةً بين أوامر البلطجي “زوكا” (زياد ظاظا)، الذي يطلب منها توفير نُسخ من مفاتيح الشقق التي تعمل بها، ليقتحمها بمساعدة زملائه، نظير السماح لها بالعيش آمنة في منزل تعسٍ ومتهالك، يفتقر إلى شتى أساسيات الحياة. كما تتعرض لاستغلال جسدي متواصل من عملائها، الذين توفّر من خدمتهم قوت يومها، بل وتنفق منه جزءًا في مساعدة زملائها غير القادرين من أبناء الجاليات الإفريقية، تارةً بالأدوية، وتارةً بالخدمة الطبية، إلى أن تصبح فريسةً لرجل مسن قعيد يطالبها بإشباع احتياجاته الجنسية، لتجد نفسها غارقة في دوامة استغلال لا ينتهي، تعيشه بشكل يومي. بل يمكن الجزم أن المدينة نفسها تهتز من حولها من فرط الفوضى واللامبالاة التي تُقابل بها. حيث صخبٌ تقابله هي بهدوءٍ وصبر، تمتص صدمةً تلو أخرى، لتواصل هذه الحياة العبثية.
وفي خضم هذا الواقع المعقّد، تسير عائشة مسرعةً في الطرقات، وتتنقل بين وسائل المواصلات العامة، راجية النجاة والسلام. تتبعها كاميرا مدير التصوير اليقظ مصطفى الكاشف من الخلف، لتتركها في المواجهة تمامًا؛ ليس مع مخاوفها فقط، وإنما مع الحاضر والمستقبل.
تتلصص عليها الكاميرا بحرص، وتعبر هي بعينيها عن الكبت والذل دون أن تنطق. وهو الأسلوب الذي اتخذه مراد مصطفى منهجًا لفيلمه: فقرٌ في الحوار، وترك البراح للتعبير بالصورة. عيناها تنطقان بكل ما بداخلها من هوان، ولا تدخل الابتسامة إلى شفتيها إلا نادرًا، لكن نراها جليةً عند استلامها مكالمة من وطنها، تتشبث بها كطوق نجاة للخروج من عالمها الحالي الخانق.
حتى في علاقتها مع حبيبها المهزوم، الشيف عبده (عماد غنيم)، لا تجد الراحة، ولا تشعر بالأمان أو الأمل؛ فهو لا يملك مصيره، وبالتالي يتركها مع أول معركة، دون حتى أن يودّعها، خشية غضب أخيه: “عاجبك إيه في البت السودة المعفنة دي؟”.
ومع أن الفيلم يتمحور حول شخصية واحدة، إلا إنه يمنح الموضوع نطاقًا أوسع وأشمل. هنا، يتعرّض الصبيان الأفارقة للتنكيل والتهديد تحت السلاح ونباح الكلاب المفترسة، وهناك استغلالٌ جسدي لفتيات مُرغَمات على الموافقة على ممارسة الجنس في عربة متهالكة وسط الطرقات. كما نشهد مشاهد لتبادل إطلاق النار بين عصابة “زيكا” (السكان الأصليين) ومجموعة من المهاجرين، في صراع على فرض السيطرة على زمام منطقةٍ مشتعلة طوال الوقت، في ظل غيابٍ مريب للأمن والشرطة على امتداد شريط الفيلم.
وهنا سبب جديد في تفرد هذا الفيلم، وهو بعض المشاهد غير التقليدية، بل لا نبالغ إذا وُصفت بالوحشية، والتي تتمثل في نهش البطلة لأحشاء جثة الرجل العجوز القعيد بعد وفاته. الأمر الذي اضطر عددًا من حضور العرض العالمي الأول للفيلم في قاعة “ديبوسي” بمهرجان كان إلى مغادرة العرض، أو على الأقل تفادي النظر إلى الشاشة الكبيرة. لكنه لم يكن المشهد الوحيد الذي يوصف بالقسوة الشديدة طوال مدة الفيلم على أية حال.
يقدّم مراد مصطفى في فيلمه الطويل الأول سردًا يتأرجح بين الواقعية والسحرية، تتخلله مشاهد لنعامة تراقب بطلتنا بين حين وآخر، تتماهى معها وتُقدم لنا نموذجًا عن شعور كل منهما بالعجز. رغم أنها الطائر الأكبر حجمًا في العالم، إلا أنها لا تستطيع الطيران. في الوقت نفسه، تحدث تغيّرات جسدية لعائشة تجعل من جلدها يتحول رويدًا رويدًا إلى عقد ريشية وحواف صغيرة ونتوءات تميز جلد النعام عن غيره. في المقابل، لا تدنِ عائشة رأسها إلى الأرض، لكنها تظل ثابتة وصلبة رغم كل ما تتعرض له في محيط منزلها وعملها وحياتها البائسة.

ناقد سينمائي ومبرمج