شهد مهرجان الإسكندرية الدولي للفيلم القصير الكثير من النقاشات الحيوية حول التغيرات التي طرأت على عالم السينما والفن في الآونة الأخيرة، وخصوصًا تلك المتعلقة بالتكنولوجيا الجديدة والذكاء الاصطناعي. من خلال الندوات التي أُقيمت ضمن فعاليات المهرجان، تمت مناقشة العديد من المواضيع التي تشغل بال صُناع السينما على مستوى الوطن العربي والعالم بشكل عام. وفي هذا المقال نستعرض أبرز هذه الندوات، وأهم المحاور التي تناولها المشاركون.

عصر التحول الرقمي وتأثير الذكاء الاصطناعي على صناعة السينما في العالم

أصبح الذكاء الاصطناعي (AI) معجزة العصر، حيث نجح في دخول جميع المجالات، وفي مقدمتها الفن. وقد أثرت هذه التقنية بشكل جذري في صناعة السينما، وأحدثت تحولًا كبيرًا في أساليب التطبيق والإنتاج. من هنا، تركزت المناقشات في مهرجان الإسكندرية الدولي للفيلم القصير، حيث أُقيمت ندوة بعنوان “الذكاء الاصطناعي وصناعة السينما”، لتسليط الضوء على دور هذا التحول التكنولوجي في صناعة الأفلام.

خلال الندوة، أكد خبير البرمجيات محمد المنوفي، أن القلق بشأن اندثار دور الإنسان بسبب انتشار الذكاء الاصطناعي غير مبرر. وأوضح أن هذه التقنية هي من اختراع الإنسان نفسه، وبالتالي سيظل الإنسان جزءًا أساسيًا في العملية، لكن سيكون دوره إشرافيًا. حيث سيقوم بتوجيه الذكاء الاصطناعي إلى تنفيذ سيناريوهات معينة، ثم يتولى مراجعة النتائج وإجراء التعديلات اللازمة، ليكمل الذكاء الاصطناعي الإنتاج بشكل مستقل بعد ذلك.

وأشار “المنوفي” إلى أن متطلبات العصر الراهن تستدعي إلمام الإنسان بأدوات الذكاء الاصطناعي. وأوضح أن ما كان يُعتبر تطورًا قبل 20 عامًا – مثل تصفح الإنترنت والبحث في المواقع – قد أصبح أمرًا بديهيًا، وأن الأمية اليوم ليست متعلقة بالقراءة أو تعلم اللغات أو استخدام الإنترنت، بل في عدم الإلمام بأدوات الذكاء الاصطناعي. وأضاف أن الفنان الذي يمتلك مهارة التعامل مع هذه الأدوات سيكون قادرًا على إنتاج أفلام عالية الجودة ويستطيع تطويع الذكاء الاصطناعي بما يتناسب مع رؤيته الفنية.

أما المخرج محمود أمين فقد أشار إلى أن الذكاء الاصطناعي أصبح جزءًا لا يتجزأ من مراحل صناعة الأفلام، خصوصًا في مجال الرسوم المتحركة، حيث يُستخدم في رسم الشخصيات والخلفيات، مما أثر بشكل كبير على تقليل الحاجة للعمالة البشرية في شركات الإنتاج. هذه الشركات تسعى إلى استبدال الإنسان بالذكاء الاصطناعي لتقليل التكاليف وتوفير الوقت، وهو ما ينعكس سلبًا على الفنانين المتخصصين في هذه المجالات. وأضاف “أمين” أنه ينبغي على الاستوديوهات أن تحرص على أن تكون لها رؤيتها الفنية الخاصة، وألا تبخس حق الفنانين في هذا السياق.

كما أشار “أمين” إلى إحدى أهم مشكلات استخدام الذكاء الاصطناعي، وهي عدم الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية للفنانين. إذ أن هذه الأدوات تستخدم عناصر فنية موجودة بالفعل لفنانين آخرين، وأحيانًا قد تحدث سرقات لبعض النماذج أو أساليب فنانين معينين، ليتم إعادة إنتاجها بشكل مشابه. وهذه السرقات قد تضع الفنان في موقف صعب من حيث حقوقه الأدبية، نظرًا لعدم وجود ضوابط واضحة في هذا المجال. من جهة أخرى، أوضح “أمين” أن هناك جوانب إيجابية لاستخدام الذكاء الاصطناعي، حيث يساعد في مرحلة العصف الذهني وتوليد الأفكار، ويُسهم في رسم المشاهد والشخصيات في وقت قياسي، مما يوفر الكثير من الوقت والجهد.

فيما تحدث المخرج عمروش بدر عن تجربة استخدام لجنة الذكاء الاصطناعي لاختيار الأفلام في المهرجان، حيث بدأ التقديم لها متأخرًا، لكن تم تقديم 50 فيلمًا وصل منها 13 فيلمًا إلى المسابقة. كان هناك نوعان من الأفلام: الأول مكون بالكامل من الذكاء الاصطناعي، والثاني حيث كان استخدام الذكاء الاصطناعي مقتصرًا على بعض الأجزاء فقط. وقد كان الفيصل في الحكم على هذه الأفلام هو القدرة على خلق مشاعر والتأثير في الجمهور، وما إذا كان يمكن أن يتفاعل معها أم لا. وأضاف “بدر” أن التطوير في هذا المجال سريع جدًا، مما يجعل التجربة مثيرة للاهتمام بالنسبة له.

الرقمنة وحفظ التراث السينمائي … أبرز أهداف مشروع DIGITISED

في إطار فعاليات مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير، أُقيمت ندوة بعنوان “رقمنة التراث وحفظ التاريخ السينمائي” في المتحف اليوناني الروماني، بحضور عدد من الفنانين، منهم النجوم بشرى، ومحمود حميدة، وخالد حميدة مؤسس والرئيس التنفيذي لشركة DIGITISED، وحازم العطار مؤسس مبادرة “تراثنا وأجيالنا”. تم خلالها استعراض مشروع DIGITISED الذي يركز على رقمنة وحفظ التراث السينمائي.

وأعرب الفنان محمود حميدة عن أهمية توعية المجتمع بشأن الأرشفة وحفظ التراث السينمائي، مشيرًا إلى أن التاريخ السينمائي حافل ويجب الحفاظ عليه بشكل منظم، بحيث يمكن العودة إليه ودراسته. وأكد على أن بيع نيجاتيف الأفلام المصرية في الماضي كان بمثابة بيع للآثار المصرية، ويجب الحفاظ على هذا التراث. كما أشار إلى التحديات التي يمثلها الذكاء الاصطناعي (AI) لصُناع السينما، حيث من المتوقع أن يحل محل الإنسان في العديد من المجالات، وبالتالي يجب مواكبة التطور التكنولوجي.

ومن جهته، تحدث “خالد حميدة” عن بداية مشروع DIGITISED، الذي بدأ فعليًا منذ عام، والذي يهدف إلى جمع وتوثيق الأرشيف المصري لحفظ التراث المادي وغير المادي، مثل الأزياء والأطعمة التقليدية والأفلام. وأوضح أن الشركة تستخدم تقنيات متطورة لضمان استمرارية المشروع. وأضاف أن العديد من الفنانين يشاركون في هذا المشروع، منهم: إلهام شاهين، أحمد شاكر، سيد رجب، أشرف عبدالباقي، لطفي لبيب، شيري عادل، صفاء الطوخي وغيرهم.

كما شددت الفنانة بشرى خلال الندوة على أن حفظ التراث ليس مجرد مبادرة ثقافية، بل هو “مهمة وطنية” تتطلب التركيز والجهد لمواكبة التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم. وأكدت أن توثيق الأعمال الفنية والتراثية يصب في مصلحة الأجيال الجديدة، إذ يسهم في تعزيز انتمائها وارتباطها بهويتها الثقافية.

من جانبه، أوضح حازم العطار أن مبادرة “تراثنا وأجيالنا” تقدم مجموعة متنوعة من الفعاليات والأفلام التي تهدف إلى توعية المجتمع بأهمية حفظ التراث والتعريف بتاريخ مصر الغني. وأشار إلى أن المبادرة تُنفذ بالتعاون مع وزارة الثقافة، وتستهدف بشكل خاص فئة الشباب والأطفال حتى سن 18 عامًا، لغرس قيم الحفاظ على التراث منذ سن مبكرة.

المهرجانات السينمائية وصناديق الدعم…نافذة للمخرجين الشباب لإنتاج أفلامهم

أصبحت منح الدعم والتطوير التي تُقدَّم للأفلام هي الملاذ لكثير من صُنّاع السينما الشباب، في ظل تحديات الإنتاج وتكاليفه العالية. ولعل أبرز تلك الجهات الداعمة للإنتاج المستقل هي المهرجانات السينمائية.

في هذا السياق، جاء موضوع الحلقة النقاشية التي أُقيمت بالمتحف اليوناني الروماني ضمن فعاليات المهرجان، بمشاركة الناقد محمد طارق المدير الفني لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، والمنتج المغربي شرف الدين زين العابدين رئيس مهرجان الداخلة، والمبرمجة كاميلي ڤارينى من مهرجان كليرمون فيران للأفلام القصيرة بفرنسا، ومحمد محمود رئيس مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير، والمخرج أمير رمسيس.

وقال “طارق” إن مهرجان القاهرة السينمائي لديه رؤية خاصة لدعم المشاريع الفنية العربية، من خلال “ملتقى القاهرة السينمائي”، الذي يُعتبر منصة تساعد صُنّاع الأفلام في تطوير مشاريعهم. وأضاف أن الملتقى استقبل في دورته الأخيرة 18 مشروعًا لفيلم عربي من 13 دولة مختلفة، تنافست على جوائز مقدمة من 20 شركة إنتاج عربية ودولية.

وأكد أن عددًا من هذه المشاريع قد حظي بدعم ملموس من الملتقى، مما يعكس فعالية هذه المبادرة في دعم المواهب الشابة. وأضاف أن هناك تحديات كثيرة تواجه إنتاج الأفلام القصيرة، إلا أنها، في المقابل، يمكن إنجازها بدون ميزانيات ضخمة، خاصةً مع التطور التكنولوجي، مما يتيح الفرصة للشباب للتجريب.

أما شرف الدين زين العابدين، فقد استعرض تجربته مع مهرجان الداخلة، وقال إن المهرجان بدأ من الصفر، ثم تطوّر حتى أصبح يمتلك هوية سينمائية خاصة، ويضم مسابقات للأفلام الطويلة والقصيرة، بالإضافة إلى منصة لتطوير السيناريوهات، وبرنامج لدعم وتقديم الجوائز.

وتابع “زين العابدين” أن المغرب اليوم تشهد ازدهارًا سينمائيًا ملحوظًا، حيث تضم أكثر من 80 مهرجانًا سينمائيًا.

فيما أشار المخرج يسري نصر الله في مداخلته إلى ضرورة إعادة التفكير في الطريقة التي يُنظر بها إلى الفيلم القصير، وعدم التعامل معه على أنه مجرد تدريب قبل صناعة الفيلم الطويل، لأن ذلك يقلل من قيمته الفنية. وأكّد على ضرورة عدم اشتراط بعض المهرجانات أن يكون المخرج قد قدّم فيلمًا قصيرًا من قبل، حينما يقدّم فيلمه الطويل للحصول على الدعم أو التمويل، مشددًا على أهمية الثقة في قدرات المخرجين الشباب. كما أشار إلى أهمية وجود منتجين يؤمنون بجيل الشباب، ويشجّعونهم على صناعة أفلامهم، سواء الطويلة أو القصيرة، وذلك للحفاظ على هذا النوع من الأفلام التي تمثّل أحد الأعمدة الأساسية للسينما المستقلة.

مشاركة: