اختتم مهرجان الإسكندرية الدولي للفيلم القصير فعاليات دورته الحادية عشرة (من ٢٧ أبريل إلى ٢ مايو)، ووزّع جوائزه على المبدعين في جميع فئات المسابقات التي أُقيمت على مدار أيامه، ومنها مسابقة “أفلام الذكاء الاصطناعي”، وهي المسابقة المستحدثة في هذه الدورة. وقد أطلّت الأعمال المشاركة، خلال عرض أفلام هذه الفئة، بأسئلة عديدة حول الذكاء الاصطناعي وحدود قدرته على الإبداع، بالإضافة إلى السؤال الأهم الذي بات يؤرق جميع المبدعين في شتى المجالات: “هل الذكاء الاصطناعي قادر على استبدالهم؟”.

أما عن الإجابة الأوضح التي طُرحت مؤخرًا، والتي أؤمن بأهميتها، فتدور حول ضرورة تقبّل كل المتغيرات الطارئة حديثًا في هذا المجال، والتعامل معها بل وتطويعها. لكن، إلى أي حد يُعدّ استخدامها أو التفاعل معها أمرًا مشروعًا؟ وإلى أي درجة قد تقتل الآلة إبداعك إن تركتها تقوم بكل العمل وجلست تراقب من بعيد، مع وعي تام بأن الإفراط في الاعتماد عليها قد يؤدي إلى تآكل جوهر الإبداع نفسه.

طرحت المسابقة، بأفلامها، سؤالًا أظنه أكثر أهمية، وهو عن اختلاف فئات أفلام الذكاء الاصطناعي في بعض استخداماتها، والتي سنفرّق بينها فيما يلي في هذا المقال. أعني أن أغلب المشاركات، وبخاصة تلك التي اعتمد فيها المخرجون على خلق الصورة نفسها باستخدام الذكاء الاصطناعي، كانت عبارة عن صور متحركة متتابعة، لأشخاص يفتقرون إلى الصفة البشرية في ملامحهم. وبالتالي، ما الذي يميّز هذه المدخلات أو الإنتاجات عن أفلام التحريك؟ فهي في النهاية صورٌ مصنوعة تحرّكها البرامج، مع الفارق الكبير، بالطبع، الذي يصبّ في صالح أفلام التحريك وإبداعها الأصيل والمتطوّر.

أفلام المسابقة… الإفراط في الاعتماد على الآلة

حددت لجنة المسابقة صفة استخدام الذكاء الاصطناعي في الأفلام المشاركة بلا شروط أخرى، وهو ما منح المشاركين فرصة سانحة، مشرعة الأبواب بلا حدود، لشحن إبداعهم والتعامل مع الآلة بحرّية. تفاوتت المشاركات بين توظيف محسوب يخدم الرؤية الفنية، واعتماد مفرط كشف عن هشاشة الفكرة أو فراغها.

اختار بعض المشاركين الاعتماد الطفيف على الذكاء الاصطناعي بما يخدم قصتهم، مع اتباع كل الخطوات العادية والطبيعية في صناعة الفيلم: كاميرا، أبطال، موقع تصوير. وجاء توظيف الذكاء الاصطناعي لاحقًا في محلّه المطلوب، بوظيفة محددة.

ظهرت هذه الحالة تحديدًا في فيلم «مأساة ليو» من إخراج مارك حنين، يحكي الفيلم بالتوازي عن قصة عاطفية لأبطال لا نراهم، بل نسمع عنهم من الراوي الذي يرافق السرد صوتيًا على طول الفيلم، بينما نتابع على الشاشة قصة مرئية أخرى. يأتي الذكاء الاصطناعي هنا في دور الراوي، بصوت آلي مرتبك في نطقه للعربية الصحيحة، جامد بلا حسّ، فيما يروي قصة رومانسية، في تناقض واضح ومعبّر. حيث قرر المخرج هنا الاعتماد على الذكاء الاصطناعي بالقدر الذي يخدم القصة، فيما تكفّل هو بدوره كمخرج في توجيه أبطاله وفريقه، ومن ضمنهم: الآلة.

في حالة مشابهة أخرى، قرّرت المخرجة المغربية مريم موزول الاستعانة بالذكاء الاصطناعي، الذي كان هذه المرّة بطل الفيلم الأهم، لكنه دون رؤيتها وبساطة طرحها، لم يكن ليُحدث التأثير ذاته. يقص علينا فيلم «صالون» ذكريات عائلية نراها على هيئة صورٍ متتابعة تُعرض على الشاشة، مصحوبة بتعليقٍ بسيط يُكتب في أعلاها. لتتفاجأ، وأنت غارق في نوستالجيا الصور التي نملك جميعًا نسخًا لا تختلف عنها كثيرًا، بأنّ هذه الصور تتحرّك. حيث استطاعت مريم، بسلاسةٍ تامة ومعقولية لافتة، أن تُحيي صورًا عائلية ثابتة لتتحرّك بانسيابية مُدهشة ومُقنعة، دون الوقوع في فخ الاصطناع الذي عادةً ما يرافق تجارب مماثلة.

ظهر أداء الذكاء الاصطناعي هنا مُبهرًا في طبيعيّته. وإنْ كانت المحاولات البدائية التي نطالعها يوميًا على الإنترنت لتحريك الصور تبدو مُرعبة في صناعيّتها، فإن “مريم” أجادت التحكّم في الصورة، وفي استخدام الآلة دون إفراط؛ ذلك الإفراط الذي كثيرًا ما يُحوّل الذكريات والأحباب إلى أشباح، بابتسامات عريضة، وعيون جاحظة، وأسنان لامعة بيضاء.

لم تخل بعض المشاركات الأخرى من نفس العيوب التي تطال الأفلام القصيرة المعتمدة حصريًا على جهود التصوير وما شابه دون تدخل الآلة. ظهر ذلك بوضوح في فيلم «الحضارة – نسخة تجريبية» من إخراج أمل عسكر. يتابع الفيلم مشاهد مصنوعة بالكامل باستخدام الذكاء الاصطناعي، تدور حول حفلة أوروبية الطابع والحضور، يتحول فيها البشر إلى وحوش من الزومبي أو ما شابه، يأكلون بعضهم البعض ويتناولون قطعًا من الأجساد، أذرعًا وأقدامًا، على أطباق فضية.

تبدو المشاهد مربكة تمامًا، “مصنوعة” بكل ما تحمله الكلمة من اعتماد تام على الآلة، أشبه بإعلانات التلفزيون التي تعيد إحياء الفنانين والممثلين الراحلين لأغراض تجارية. ينتهي الفيلم برسالة تملأ الشاشة عن “الحضارة الجديدة المرعبة” أو شيء من هذا القبيل، فتعود حينها بذاكرتك إلى الوراء محاولًا تتبع مشاهد الفيلم التي لم تفهمها أثناء عرضها، أو محاولًا معرفة من هؤلاء وما الذي يفعلونه هنا. وهذه هي المأساة الكبرى: الفيلم الذي يعتمد على رسالة مكتوبة في نهايته لتفهم منه، بعد انتهائه، ماذا كان يعني كل ما شاهدته، هو فيلم معيب في جوهره.

تعددت المشاركات الأخرى بين محاولات مكررة للعب بالصورة والمؤثرات الصوتية والمرئية، بينما لم تحكِ الصورة أي شيء يعبر عن مضمون الفيلم، مثلما نرى في «تذكر 2 إنسان» للمخرج دوريم كلايفي من كوسوفو. في هذا الفيلم، تتصدر الحكاية المسموعة التي تروي تأملًا حزينًا في الحياة ومآسيها، كونها البطل الحقيقي. النص الأدبي المتميز كان هو العنصر الأبرز، بينما بدت الصورة المرتبكة التي ظهرت على الشاشة بلا معنى أو فائدة.

الصورة والمؤثرات … نقطة قي صالح الفن التجريدي

سؤال آخر تطرحه فئة الأفلام المصنوعة بالذكاء الاصطناعي يتعلق بفهم الفنان أو ما يود إيصاله من خلال الفنون التجريدية أو الفنية، والمعروفة بين المختصين في المجال بـ Artistique، وهي الأفلام التي تعتمد على الصنعة الفنية في الصورة والأداء والمؤثرات، والتي لا تلقى في العادة رواجًا بين المشاهدين العاديين الراغبين في قصة واضحة وبداية ونهاية واضحة، الباحثين عن مغزى القصة.

يملك المخرجون أصحاب الوعي بهذا النوع من الأفلام، فيما أرى، ميزة تعمل لصالحهم في فئة الأفلام المصنوعة بالذكاء الاصطناعي، فالمبدع من هذا النوع يملك رؤى مختلطة في عقله في الأصل، صورة واضحة لما يرغب في قوله لكنها مشوشة إلى حد ما، ويرغب في طرحها على المشاهد كما تدور هي في عقله.

يعتبر فيلم «هذيان ليلي» للمخرج الإسباني يزا فوكو مثالًا واضحًا على ما تحدثنا عنه. قد يختلف تأويل الفيلم كما يظهر في ملخصه عن تأويل المشاهدين، لكن هذه الاختلافات هي ميزة للفيلم. فكلما تعددت تأويلات المشاهدين، كلما زادت قدرة المخرج على التعبير عن إبداعه وانفتاحه على التجارب وابتعاده عن حشر الرسائل والإحالات المباشرة. فالمخرج هنا تلاعب بالصورة المصنوعة بالذكاء الاصطناعي، حيث لم تكن الصورة مصنوعة بشكل كامل ولا حقيقية تمامًا، مما يتركك في حالة من التساؤل حول ما هو حقيقي وما هو مُصمم.

وقد كانت الجائزة الذهبية، التي فاز بها الفيلم الإسباني «هذيان ليلي»، في محلها تمامًا، حيث أثبت أن الأفضل فعلاً هو من نجح في تقديم تجربة فنية مبتكرة ومثيرة. فعندما أعلن المهرجان في ختامه جوائز مسابقة الذكاء الاصطناعي جاء ترتيبها على النحو التالي:

جائزة “هيباتيا” البرونزية للفيلم الغربي (صالون)

جائزة “هيباتيا” الفضّية للفيلم المصري (مأساة ليو)

جائزة “هيباتيا” الذهبية للفيلم الإسباني (هذيان ليلي)

حق تقرير المصير… أو التخلي عنه.

هذا السياق يحيلنا في إشارة سريعة، وبمناسبة الصراع الدائر حول الذكاء الاصطناعي والخوف الذي يطال المبدعين أحيانًا، إلى صيحة “اقتلوه ولا تدعوه يتكاثر”، كما لو كان وباءً أو كائنًا خرافيًا أو فضائيًا من أولئك الذين تحتشد بهم الأفلام الغربية. هذا الصراع يعيدنا إلى حقيقة المستقبل الذي سيفرض نفسه بحتمية لا جدال فيها، وهي الحتمية التي طرحها مسلسل بلاك ميرور في موسمه السادس، وحلقته الأولى. حتمية مبالغ فيها، كما هي عادة المسلسل، لكنها ليست مستحيلة.

تبدأ الحلقة بعنوان “Joan is Awful” (جوان البشعة). دون الخوض في تفاصيل القصة الرئيسية للحلقة، نختصر إلى الإحالة المقصودة: الحلقة تفترض وجود مسلسل تلفزيوني يُعرض على إحدى المنصات المدفوعة، يُساء فيه إلى سيدة ما، حيث اقتبس المسلسل قصة حياتها وأساء إليها. تحاول تلك السيدة مقاضاة بطلة المسلسل، لنكتشف فيما بعد أن البطلة لم تمثل بنفسها أي مشهد، بل أن المسلسل المسيء تم صنعه بالكامل باستخدام الذكاء الاصطناعي. وقد تعاقد منتجو المسلسل مع البطلة على حق استخدام وجهها، ليتم إضافته إلى البرنامج الذي يصنع الصورة الظاهرة على الشاشة.

بعيدًا عن أخلاقيات التجسس وخطورة الذكاء الاصطناعي التي تبالغ الحلقة في وصف قدراته، تطرح الحلقة سؤالًا محوريًا عن اللحظة التي سيختفي فيها الإبداع الحقيقي أو أي ملمح عنه. هذه اللحظة قد تأتي إما من احتلال قدرات الذكاء الاصطناعي المتطورة يومًا بعد يوم، أو من تكاسل البشر الذين، في كل الأحوال، إذا وجدوا من يقوم عنهم بعملهم، سيفكرون أولًا في استخدام هذه المساعدات التكنولوجية، ومن ثم يتعوّدون على الراحة ويتركون العمل كله له. هذه هي النقطة الفاصلة في المستقبل، والتي لن يقررها الذكاء الاصطناعي كما نتخيل، بل نقررها نحن.

 

مشاركة: