ما أجملها الأحلام؛ تلك الماكينة البصرية الغامضة التي نهرع إليها بخيالاتنا كل مساء بحثًا عن منفذ لآمالنا المحطمة ورغباتنا المكبوتة، تلك التي قد نخجل أن نعترف بأصغر تفاصيلها أمام أنفسنا. إن الحلم نافذة ضبابية مُحملة بقطرات ندى كثيفة تطل على أعماق أنفسنا، نسترق النظرات الخفية من ورائها إلى أفاق ربما تمتد جذورها إلى طفولتنا، تعبر عن آمال ورغبات مكبوتة لا يسعنا الشعور بها أثناء اليقظة، فتبعث من الأحداث ما ظننا أنه عفى عليه الزمن وتجسده كحقيقة مجردة أمام أعيننا، وكأنه خيط رفيع خفي لا تدركه أبصارنا فيُشكل ماضينا وحاضرنا.
فكما سكنت الأحلام أساطير الأولين، سكنت قصصنا، ورواياتنا: “نحن نحلم بالراحة دائمًا، ولكن لا راحة مع الحياة”، كما يقول “محفوظ” على لسان عمرو المصري في «حديث الصباح والمساء». وكذلك أفلامنا: “علي الزهار مات عشان بيحلم”. فمن منا لا يحلم بالتطلع لحياة مثالية (منزلاً جميلاً ووظيفة مستقرة) كتلك التي يتمناها حازم في مسلسل «الشرنقة»، ولكن بأي ثمن؟ أهو مصير السير في طريق مظلم أم ضريبة لأنه تجرأ على الحلم؟ .. وكم من فتاة – تشبه محنتها تلك التي تمر بها نجلاء في مسلسل «إخواتي» – تحلم بالتحرر من سلطة أبوية سامة سلبت الحياة من بين ضلوعها وتركتها كمصباح عتيق بلا إضاءة، حتى لو كلّفها ذلك أن تقتل هذا الوثن في أعماق أحلامها.
ولكن هل يمثل الحلم رغبة محققة؟ وأي تغيير ينال تلك الصور المشوشة التي تغازل خيالاتنا قبل أن تتحول من أضغاث أحلام إلى حقيقة؟ .. فكما يذكر العالم النفسي مصطفى زيور، في مقدمة كتاب «تفسير الأحلام» لسيجموند فرويد: “الحلم خبرة من خبرات الإنسان العاقل، ولكن طبيعته الهلوسية لا تختلف عن هلوسة المجنون. ومعني ذلك أن الحلم يكشف عن طبيعة العقل والجنون معًا”.
طمس الحدود بين الحلم والواقع
“عمرك توهت جوه حلمك، ومقدرتش تفرق بينه وبين الحقيقة
عمرك ندمت إنك صحيت، لأن حلمك الجميل انتهى”.
هذه الكلمات التي تتزاحم كل ليلة داخل عقل حازم، يمكنها أن تُلخص صراعه مع عالم الأحلام والواقع. فعلى الرغم من كونه محاطًا بأسرة مثالية وحنونة، إلا أنه محاصر داخل وظيفة مملة لا تشبهه ولن تصل به إلى ما يحلم في نهاية الرحلة؛ فهذه الحياة ليست ما تمناها لنفسه بعد أن تجاوز الثلاثين. إن حازم هو لسان حال الملايين، أشبه بدودة قز تحلم بالخروج من شرنقة ضيقة ليُحلق في فضاء أرحب كالفراشات.
ربما يكون عنوان مسلسل «الشرنقة» للمخرج الشاب محمود عبد التواب، كافيًا لسبر أغوار شخصية حازم (أحمد داوود)، ذلك المحاسب البسيط الناقم على أسلوب حياته ومستواه المادي المتواضع، الغارق في دوامة من الديون والأقساط والسُلف، والذي تراوده دومًا سلسلة من أحلام اليقظة يرى خلالها نفسه شخصًا آخر “إيساف”، مرتديًا زيًا أنيقا وسط هالة كبرى من الثراء الفاحش حيث السيارات والمنازل الفخمة والصفقات المشبوهة التي تدر المليارات. ولكن وسط هذه المستويات المتعددة من الأحلام داخل الأحلام، والتنقل السريع ما بين الواقع – أو ما نظنه كذلك – والحلم، يدفعنا إلى التساؤل حول طور هذه الشخصية داخل شرنقتها، أهو يرقة صغيرة منسحقة أم فراشة جميلة تنتظر اللحظة المناسبة للتحليق عاليًا؟
يعتمد السيناريو الذي كتبه المؤلف عمرو سمير عاطف، خلال حلقات المسلسل الأولى، على طمس الحدود بين الأحلام والواقع، وهو ما يصيبنا بالحيرة والتخبط عن مدى مصداقية الواقع الذي يعيشه حازم من عدمه، وتعكس هذه البنية السردية المشوشة متعددة الطبقات جملة التعقيدات التي تدور داخل عقل هذا المحاسب، وما يزيد من تشابكها تعقيدًا مشهد الشخصية المقابلة إيساف مع الطبيب النفسي في حلقات متقدمة، حين يخبره بحلم متكرر يرى نفسه فيه شخصًا بسيطًا يُدعى حازم تنقلب حياته رأسًا على عقب حين تجرأ على الحلم. فكلما تداخلت الشخصيات وانحدرنا نحو مستويات أعمق من الحلم، يصبح الواقع مشوهًا تدريجيًا، ويصعب التمييز بين ما هو حقيقي ووهم، بين الواقع وأحلام اليقظة.
يرى فرويد أن الأحلام تقدم فرصة فريدة للتعبير عن الرغبات والأفكار المكبوتة، إنها ظاهرة نفسية صادقة، وهي أقرب ما يكون إلى تحقيق رغبة ما، والطريق موصول بينها وبين نشاط العقل أثناء اليقظة. وإذا ما طبقنا هذه الفرضية على شخصية حازم، سنجد أن أحلام الثراء والترقي الطبقي كانت سبيله الوحيد للخلاص من فتور واقعه. ففي الوقت الذي يكدح في عمله المكتبي لزيادة ثروة رئيسه محسن مرجان (صبري فواز)، لا ينال منه سوى الفتات؛ تنهال عليه مكالمات التسويق العقاري وبائعي الوهم، بينما يجلس في مؤخرة “ميكروباص” يسترق من خلف نافذته النظر إلى أحلامه وهي تتحرك داخل سيارة رياضية مكشوفة وبجانبه فتاة جميلة. في هذه اللحظة، يأخذ اللاوعي محل الوعي، وتصبح أحلام اليقظة حقيقة راسخة، ويقرر حازم العوم مع “الحيتان” من تجار المخدرات وأصحاب الأعمال المشبوهة، إلى أن يتحول تدريجيًا إلى مقابله الضد “إيساف”.
إن هذه الفرضية التي سماها فرويد “الحلم تحقيق رغبة”، يمكن أن نلاحظها في عمل آخر شديد الحساسية تجاه فكرة الأحلام وهو مسلسل «إخواتي» للمخرج محمد شاكر خضير. ولكن على عكس العمل الأول الذي تتشكل فيه فكرة الحلم داخل إطار نفسي معقد، ينسج المؤلف مهاب طارق خيوط أحلامه من منظور عبثي.
في العام الماضي، افتتح المؤلف مهاب طارق مسلسله «لحظة غضب» بمشهد تسلسل حلم تخوض خلاله البطلة يمنى (صبا مبارك) شجارًا مع زوجها النرجسي شريف (محمد فراج)، بسبب جفافه العاطفي واستخفافه بمشاعرها. وقبل أن تُنهي يمنى كلماتها، يتمكن شريف من تجريدها من إنسانيتها قبل أن يجردها من ملابسها قطعة قطعة ويُلقي بها خارج باب المنزل، ثم تستيقظ من هذا الكابوس على آخر يستمر معها طوال أحداث المسلسل.
ورغم اختلاف المعالجة، لا تنفصل افتتاحية مسلسل «إخواتي» عن سابقه من حيث الفكرة؛ إذ يبدأ العمل بتعليق صوتي لمفسرة أحلام عبر أحد برامج التوك شو: “كل حاجة بنحلم بيها بتعبر عن حاجة، يا بتعبر عن خوف جوانا، أو حاجة بنرتاح لها، أو حاجة نفسنا تحصل ومبتحصلش”. ثم ننتقل إلى نجلاء (جيهان الشماشرجي)، التي قدمت واحدًا من أدوارها المميزة، تلك الزوجة الوديعة المغلوبة التي تسعى لإجابة عن حلمها الغريب، الذي ترى خلاله زوجها عائدًا إلى منزلهما ليلاً مطعونًا في بطنه بعد خلاف دار بينهما في الصباح؛ وما يزيد من غرابة الحلم هو تحققه بالفعل مع نهاية الحلقة الأولى.
إذا أمعنا النظر في شخصيتي “يمنى” و”نجلاء”، سنجد أنهما امتدادًا لتاريخ طويل من التعنيف الزوجي والقسوة والإهمال، حياتهن مغلفة بالإحباط والقهر ذاته، الذي يشترك في سببه الأساسي زوج يجمع ما بين التسلط والشك وفرض القوة، وهو ما يمكن أن ينطبق على شخصيتي شريف، وربيع (أحمد حاتم).
هذا الشعور بالكبت هو ما يُولّد داخلهن أفكارًا تجاه أزواجهن يتم ترجمتها في صورة أحلام تميل إلى رغبتهن في الانتقام، كالتخلص من ربيع – علي سبيل المثال؛ أو التحرر، كأن تداعب حلمها القديم (الرقص). في هذا السياق، يعتبر فرويد أن الأحلام ليست فقط ظاهرة عشوائية، بل أداة فعالة تمكننا من فهم أعمق لأنفسنا، لما يزعجنا، وما يدفعنا إلى الأمام.
الحلم والرؤيا في الموروث الديني
لقد تطرقت الكتب السماوية لمسألة الأحلام قبل قرون طويلة من ثورة العلم التي أسست لنظريات متقدمة تتخذ من الأحلام مادة لتفسير السلوك البشري. وقد وردت في هذه الكتب قصصًا كثيرة عن الأحلام والرؤى والحدود الفاصلة بينهما، مثل رؤيا يوحنا في الكتاب المقدس، ورؤيا يوسف وإبراهيم في القرآن الكريم. لذلك فهناك علاقة وثيقة بين تفسير الأحلام والرؤى وبين الأديان السماوية. وهذا ما تسعى شخصيتي حازم ونجلاء إلى الذهاب وراءه بحثًا عن إجابات لأسئلة عجزوا عن إيجاد تفسير لها.
فقبل أن تكتشف أن اخوتها هم من وجدوا في حلمها فرصة مناسبة للتخلص من زوجها ربيع وتحرير شقيقتهم الصغرى، تعجز نجلاء عن إيجاد سببًا ميتافيزيقي أو تفسير علمي للحلم الذي رآته في حلقات المسلسل الأولى، على الرغم من كونها شخصية “مبروكة”، أو كما تخبرها شقيقتها الكبرى أحلام “دي بيسموها فراسة”، فهي تتمتع بصدق الرؤيا مع عائلتها منذ صغرها، وهي الفكرة الراسخة التي يدفع اخواتهن تجاهها حتى يُبعدن أصابع الشك عنهن.
وكما استعانت بعالمة الأحلام في بداية المسلسل، تُعيد نجلاء الكرّة مجددًا طارقة هذه المرة باب الدين. يخبرها رجل الدين أن هناك فرقًا ما بين الرؤيا والحلم، فالأخير من عمل الشيطان – كما يشير النص الديني، أما الرؤيا فتمثل نبؤة لأشياء ستحدث في المستقبل شريطة استيقاظ الرآي قبل الفجر، وهو من وجهة نظر الشيخ ما لا ينطبق على حالة نجلاء فينصحها بالذهاب لطبيب نفسي، لتختتم حديثها بسخرية شديدة – بعد أن عجزت عن إيجاد الراحة أو القناعة في كلماته – “هبقى اتغطى كويس”.
في المقابل، يعجز الطبيب النفسي في استيعاب أزمة حازم/إيساف مع الأحلام، حيث يجد الأخير نفسه من شخص سابح في بحر من الأحلام إلى مجرد تائه يقف على شاطئ جاف بلا ماء، فتتوقف أحلامه عند نقطة معينة ومن ثم يتكرر الحلم وكأنه يعيش يومًا أبديًا لا نهاية له.
هنا، يقرر اللجوء أيضًا إلى الدين بعد أن وصل العلم في حالته إلى طريق مسدود. من خلال سياق المشهد نتضح أن هناك فرقًا ما بين الرؤيا وحديث النفس (أصغاث الأحلام)، وهي أحداث ومخاوف مخزّنة في العقل الباطن يُعاد تكوينها أثناء النوم. وحين يعترف حازم أن الذي يختبره ليس أصغاث أحلام ولا رؤى، يفترض الشيخ جدلاً أن ما يحدث نتيجة تعاطيه للمخدرات، وهي – للأسف – الفرضية الضعيفة التي بنى عليها مؤلف المسلسل لاحقًا أزمة هذين الشخصين اللذين يعيشان في جسد واحد.
خيال غير مكتمل
ربما تكون تيمة الحلم، واحدة من التيمات الدرامية الأكثر ثرءًا وتعقيدًا في الأعمال الأدبية والدرامية، فهي تتعمق في الطبيعة البشرية المعقدة وتتحدى أساليب السرد التقليدية فتوفر مساحة خصبة للإثارة والغموض يبحث عنها عشاق هذا النوع من الجمهور.
فعلي الرغم من البداية الجيدة والبناء الدرامي المتماسك – إلى حد كبير – لمسلسل «الشرنقة»، إلا أنه بعد عدد قليل من الحلقات ينجرف وراء المباشرة في الحوار، والاعتماد على جمل نمطية ترددها الشخصيات فتعبر عن أزمتها وما تمر به بشكل واضح ومتوقع، أفقدها متعته الناتجة في الأساس عن غموضه وغرائبيته. فضلاً عن القفز لأكثر من نوع درامي، إذ بدأ المسلسل من منطلق الإثارة والغموض ليتحول تدريجيًا إلى نبرة وعظية مليئة بمشاهد لمطاردات رجال الشرطة والعصابات. إلا أن هذا لا يمنعننا للقول بأنه واحدًا من الأعمال الجيدة في الموسم الرمضاني ويمثل نقلة كبرى في مسيرة مخرجه محمود عبد التواب، وممثلين آخرين غردوا خارج حدود المألوف مثل مريم الخشت (سلمى)، ورامي الطمباري في شخصية جلال العشري.
أما أزمة كتابات مهاب طارق، الذي يتمتع بمقومات فنية وأفكارًا جيدة وقلم شديد الحساسية سيتطور مع الوقت إذا ما خرج سريعًا من عباءة محمد سامي، فيمكن تلخيصها في أن أعماله التلفزيونية تتمتع ببدايات جذابة ورشيقة، تنجرف ببطء نحو خطوط درامية فرعية لا حاجة لها، ثم نهاية ساذجة تفسد ما سعى لبنائه طوال الحلقات. وهذا ما حدث العام الماضي في مسلسله «حظة غضب»، وتكرر هذا العام في «إخواتي» بنفس الأسلوب والمعالجة. فإذا كنت تؤسس لمنطق عبثي منذ اللحظة الأولى فهذا ليس معناه أن تتخلى عن منطقية الأشياء وتركن إلى أن الجمهور سيتقبل كل ما يراه، من قبيل أن “كله عبث في عبث”، وكأننا نستدعي حلمًا مبهمًا من أحلام “نوجا”.

ناقد سينمائي وعضو جمعية نقاد السينما