لا يخفى على أحد أن الإنتاج السينمائي والتلفزيوني يواجه أزمة كبيرة منذ سنوات. بين الحين والآخر، تظهر تجارب واعدة تبعث الأمل، لكنها سرعان ما تخبو دون أن تُستثمر في محاولات أكثر إحكامًا وإتقانًا.
إذا كان هذا الحال في الدراما بشكل عام، فإن الكوميديا تتضاعف فيها المأساة، حيث الكسل الواضح وافتقار الكتابة الجيدة التي تصل إلى حد انعدام الموهبة تمامًا. الكوميديا هنا لا تنبع إلا من مصادر محدودة، مثل المبالغات في تصميم الشخصيات، سواء في ملابسها أو طريقة كلامها، أو من الأحداث غير المنطقية، في محاولة لصناعة الضحك من مفارقات سخيفة. أما الأسلوب الآخر، فهو السخرية من فئة معينة بأسلوب مبتذل. لسنا هنا نتكلم بلسان صوابية سياسية وأخلاقيات تتسامى عن أرض الواقع، ولكن المشكلة تكمن في أن السخرية تفتقر إلى الواقعية حتى نتقبل أنها طبيعية وأنه لا داعي لحساسية مفرطة.
نحاول هنا أن نستعرض أكثر الأعمال الكوميديا التي كان الجمهور يترقبها في محاولة لمساعدة القارئ على معرفة أهم إيجابياتها وسلبياتها.
أشغال شاقة جدا
استمرارًا للمرض المزمن المتفشي في الدراما المصرية، والمتمثل في إنتاج أجزاء جديدة من أعمال لم تكن بحاجة لذلك، اعتمادًا على نجاحها الأول، يكرر المسلسل في جزئه الثاني نفس الحبكة المستهلكة في الجزء السابق. ومع هذا الإصرار على الاجترار، تتلاشى أي جوانب مضيئة -على قلتها- ليترك لنا عملاً يغلب عليه التكاسل وغياب أي محاولة لخلق كوميديا ذكية.
تظل الكوميديا هنا قائمة على التصرفات الغريبة وغير المنطقية لأصحابها، كأن يسأل عربي (مصطفى غريب منبع الكوميديا الوحيد بالعمل) من حمدي (هشام ماجد) “ملقيش عندك فرن زيادة” لأنه يقوم بتجهيز نفسه وعندما يسخر منه لأنه غير مرتبط بالأساس، يعاود الطلب “ملقيش عندك عروسة زيادة”، وعلى هذه الشاكلة المتكررة يحاول العمل خلق مواقفه الطريفة، أو عبر السخرية التي قد تكون مقبولة لو كانت ذكية وموظفة بحكمة، لكن الاستسهال هنا يبلغ حد العجرفة، مع مبالغات غير قابلة للتصديق، مثل تصوير “الخادمة الجديدة” في الحلقة الأولى “على أنها غول يلتهم كل شيء”، في صورة يستحيل تحقيقها أو حتى أن يسمح بها أحد،.كما أن الضحك لا ينشأ من كمية الطعام الهائلة التي تستهلكه، بل من طريقتها في الأكل، فكان من الممكن أن تأكل كمية كبيرة من “اللانشون” بدون أن تلتهمه بهذه الطريقة، أو أن تطلب طعام بدون أن تكون الكمية غير قابلة للتصديق ك (16 كيلو لحم، 15 كيلو تفاح).
تعتمد كوميديا مسلسل «أشغال شقة» بجزئيه على توليفة ثابتة: خطأ يرتكبه عربي، ويتورط معه حمدي من أجل إنقاذه وإنقاذ نفسه بالتبعية، إلى جانب ظهور خادمة غريبة التصرفات، ثم سيل من المبالغات التي لا تصدق ويتعامل معها الجميع بشكل طبيعي جدًا. فكيف مثلًا لطبيب في الطب الشرعي لا يستشعر من حاسة الشم أو من تأثيره عليه أن البخور يحتوي على مخدر الحشيش، بالإضافة لهروب هناء الساذج دراميًا، حتى العمل لم يكلف نفسه في بداية الحلقة الخامسة لإظهار كيف خرج الدكتور حمدي من مأزقه (عندما كان معلق في الحمام) أثناء تحليل المخدرات في الحلقة السابقة!
لا تقف المبالغات على أول حلقتين من الجزء الثاني، بل تستكمل في باقي الحلقات؛ فسناء (فدوى عابد) التي لديها علاقات عديدة مع عدد لا يحصى من الرجال، حريصة كل الحرص على أن تعرف من هو والده، بل ولا تقبل وبكل صدق أي أحد يحاول التلميح إلى سوء سلوكها وهو شيء لن يجرؤ عليه أحد في موقفها.
المشكلة لا تكمن في تصوير فئات أو مهن بطريقة سيئة كما يقول البعض كمحاولة لممارسة دور الرقيب الأخلاقي، هذا فن في النهاية ولا عيب في تصوير أحد الشخصيات بطريقة سلبية. لكن الدراما، مهما بلغت من خيال، لها منطقها وقوانينها، ويجب أن تنبع هذه الصورة من سياق مقنع، لا أن تكون مجرد مبالغة عبثية بغرض السخرية لا أكثر.
الكوميديا في «أشغال شقة جدًا» لا تنبع إلا من تصوير الشخصيات في صورة حمقاء أو بأفعال همجية غير منطقية، ورغم ذلك، تفشل في تحقيق الضحك غالبًا، باستثناء قدرات مصطفى غريب الاستثنائية في خلق لحظات كوميدية أصيلة من العدم.
وكل ذلك ما هو إلا دليل واضح على كسل المسلسل على مستوى الكتابة والذي يظهر جليًا في استدعاء الشخصيات الفرعية التي توهجت في حلقات الجزء الأول، كمحاولة لإعادة إنتاج واستثمار نجاحات الموسم الأول.
النص
بصريًا، تبدو الأعمال متشابهة، لا سيما في افتقارها للتميّز على مستوى الإنتاج والتصوير، فلا بصمة واضحة أو محاولة لاستغلال العناصر الفنية وتوظيفها لخلق كوميديا نابعة من داخلها. الاستثناء الوحيد هو مسلسل «النص» لأحمد أمين، الذي أخرجه حسام علي، وتغلب على صورته لمسات هوليوودية مستوحاة من الأعمال الأمريكية التي تناولت الحقبة ذاتها. يتجلى هذا التأثير في حركة الكاميرا وتصميم الإنتاج، ورغم أنها ليست بصمة بصرية أصلية، لكنها على الأقل يبدو عليها الاجتهاد الواضح لمحاولة خلق صورة مميزة تنقل في طياتها روح الحقبة الزمنية حيث تدور أحداث المسلسل في الثلاثينات من القرن الماضي.
يتميّز العمل بعدم اعتماده على كوميديا مبتذلة قائمة على المبالغة، لكنه في المقابل لا يصل بالمشاهد إلى حد الضحك الحقيقي، أو كما يُقال “صريخ ضحك”، بل يكتفي بإثارة ابتسامات متفرقة. لذا، يبدو أقرب إلى دراما خفيفة تُصنَّف كعمل كوميدي فقط لكون بطله أحد أكثر الوجوه المضحكة والمحبوبة في السنوات الأخيرة. فالكوميديا نابعة من أداء أحمد أمين المحبب للقلب ولزماته المتكررة.
يحاول المسلسل تقديم رحلة بطل تقليدية، حيث يجد نفسه مدفوعًا إلى تبني قضية كبرى وهدف نبيل (النضال ضد الإنجليز)، بينما يسعى للتطهّر من من ذنوب الماضي (حيث اشتهر بكونه نشال محترف). لكن الحياة لا ترحمه، وتضعه أمام مأزق بين العودة إلى طريق الضلال أو التمسك بمبادئه، ولو كان الثمن التخلي عمّن يحب.
الحكاية تحمل مقوّمات درامية جيدة، خاصة أن الشخصيات الثانوية تخوض صراعاتها الخاصة، مثل الضابط الذي تغمره الحيرة بين الانصياع لكلام المسؤول الإنجليزي الذي يأمره بالبطش بكل مناضل وبين ضميره الشخصي الذي لا يرى ذلك صوابًا، صحيح القالب ليس بالجديد ولكن لا عيب في ذلك، فالثيمات الدرامية متكررة في كل الأعمال.
المشكلة أن الإيقاع لا يرتفع مع تقدم الحلقات، بل يغلب عليه الفتور والمطّ، فلا الدراما مؤثرة وجذابة، ولا الكوميديا متوهجة. لا يمنحك العمل شعورًا بأنه سيقدم أفضل مما ظهر في حلقاته الأولى. لكن العيب الأكبر يكمن في الأداءات النمطية، إلى جانب الظاهرة المتكررة باستقطاب وجوه اشتهرت عبر الإنترنت إلى عالم التمثيل، رغم افتقارها للموهبة، وهو أمر مؤسف لأنه يأتي على حساب الكثير من المواهب الشابة التي تستحق فرصة مماثلة.
كما أن العمل يقدم بطلًا يستخدم ذكاءه في تجاوز الصعاب بمهارته في النشل، لكن المسلسل يفشل في تقديم مشاهد سرقة ممتعة بصريًا، إذ تبدو جميعها متشابهة، غير مبتكرة، ولا تمنح المشاهد أي إحساس بالدهشة أو الإعجاب بخفة يد السارق وذكائه.
الكابتن
ليست هذه المرة الأولى التي يلجأ فيها عمل مصري إلى قصة يشاهد بطلها روح ميت، وما ينتج عن ذلك من مفارقات مضحكة بسبب المواقف المحرجة التي يتحدث فيها البطل مع الأشباح أمام أعين الآخرين. ففي خمسينيات القرن الماضي، دارت أحداث فيلم «عفريتة إسماعيل يس» في إطار مشابه، حيث استعانت روح “كيتي” بإسماعيل يس لمساعدتها في العثور على قاتلها وتسليمه للعدالة.
ورغم غرابة هذه الحبكة وبساطتها الظاهرة، فإنها قابلة للتطوير بطبقات أعمق، إذ يمكن بسهولة أن تصبح مجازًا عن الحالمين الذين يطاردون أحلامهم، بينما يشكّك الجميع من حولهم في جدوى مسعاهم، بل وينظرون إليهم كواهمين أو مجانين. لذلك، لا عيب على الإطلاق في تكرار الثيمات الفنية أو تشابه الأفكار، فبالمهارة والوصفة المناسبة يمكن تقديم عمل جيد. لكن، هل نجح المسلسل في استثمار فكرته أو ابتكار شيء جديد، أو حتى السير على خطى سابقيه؟
لم يتمكن العمل من استغلال المساحة الواسعة أمامه، بل حصر نفسه في إطار ضيق ازداد انغلاقًا بسبب التوليفة غير المتجانسة التي جمعت أبطاله. لا يوجد الكثير مما يمكن قوله عن مسلسل أكرم حسني الجديد، الذي أخرجه معتز التوني، صاحب الخبرة الطويلة في الأعمال الكوميدية. في الواقع، يبدو العمل مناسبًا لطفل لم يتجاوز الثالثة من عمره، بحيث لم يتشكّل وعيه بعد ولم يدرك تفاهة ما يرى. فالمسلسل لا يقدم أي شيء يُذكر، لا أداءات تمثيلية قوية، ولا إخراج قادر على خلق مشاهد كوميدية ذكية، أو حتى مجرد بسمة عابرة على وجه المشاهد.
في الحقيقة، خلال الحلقات الأولى، إذا ابتسمت – وهذا أمر مشكوك فيه – فسيكون ذلك انتصارًا عظيمًا للمسلسل! الحبكة تقوم على طيار تتعرض طائرته لحادث، ما يسفر عن وفاة عدد من الركاب الذين يبدأون في الظهور له، مطالبين إياه بتنفيذ بعض المهام المهمة بالنسبة لهم كي يتركوه بسلام. يعتمد العمل على المفارقات الناتجة عن كون هذه الأرواح لا تظهر إلا للبطل، الذي يغضب وينفعل في كل مرة يواجههم، بينما يظن الأشخاص الحقيقيون أن حديثه موجه إليهم. لكنها مفارقة مستهلكة، أُعيد استخدامها مرارًا دون أن تُثمر عن لحظة كوميدية ناجحة.
وكالعادة، يأتي تصميم شخصيات الأشباح غريبًا في الشكل والأسلوب، لكن حتى هذه الغرابة تفشل في انتزاع الضحك، بل تؤدي إلى الملل بسبب تكرار الشخصيات للزماتها المعتادة دون أي تجديد.
شهادة معاملة أطفال
إذا كان العمل السابق يصلح لطفل في الثالثة من عمره، فإن هذا العمل لا يصلح للمشاهدة من الأساس. يحاول المسلسل بناء الكوميديا اعتمادًا على قالبين؛ الأول هو شخصية تستفيق من غيبوبة دامت عشرين عامًا، لتتفاجأ بالتغيرات التكنولوجية من حولها والفروقات الشاسعة في الأسعار بين عامي 2005 و2025، لكن هذا التكرار المبالغ فيه يجعل الفكرة مملة وغير مضحكة. أما القالب الثاني، فهو بطل العمل نفسه، المحامي الفاسد الذي لا تعتري قلبه أي رحمة ولا يخالج ضميره أي شعور بالذنب، محاولًا خلق الكوميديا من استهانته بكل شيء وعجرفته مع إضافة عنصر شديد السخافة: كلما غضب البطل، عبد الستار الكف، أطلق طلقتين من مسدسه!
بعيدًا عن كون هذا التصرف مبالغًا فيه إلى حد السخف – خاصة أنه محامٍ وليس تاجر سلاح مثلًا – يبقى السؤال: أين الكوميديا في ذلك؟ ولماذا الإصرار على التكرار، رغم أنه لم يكن مضحكًا منذ البداية؟
إخراجيًا العمل هو التجسيد الأكثر ابتذالا لكلمة “coverage” وهو مصطلح سينمائي يشير إلى تصوير المشاهد من عدة لقطات وزوايا ثم تركيبها لاحقًا في غرفة المونتاج. لكن الإفراط في استخدام هذه التقنية يحوّل فلسفة التصوير إلى عبث محض، حيث تتغير زوايا الكاميرا وأحجام اللقطات داخل المشهد الواحد دون أي مبرر درامي أو محاولة لخلق تأثير ما، ليصبح العمل المونتاجي عبارة عن تجميع لقطات بدون أي سلاسة أو ذكاء في التنقل، فقط لقطات مجمعة كأنها مأخوذة من أعمال عدة وليس عمل واحد.
عقبال عندكم
يبدأ العمل بداية مشرقة، معتمدًا على تعليق صوتي يقدّم شخصياته بأسلوب يوحي بكوميديا ساخرة، سواء من الأحداث أو من أبطاله وحياتهم. وأخيرًا، يبدو أننا أمام عمل يقدّم حياة طبيعية لشابين على مشارف الزواج: حمزة، المحامي، وصفا، الممثلة. لكن قبل أن نتبنى رؤية حالمة بأننا بصدد عمل جيد، سرعان ما يتراجع كل ذلك ويندثر.
يختفي التعليق الصوتي تمامًا، وينقلب المسار، إذ يبدأ العمل في سرد الحكايات عبر شخصياته، حيث يقوم إيمي سمير غانم وحسن الرداد بتجسيدها. وما إن تنتهي إحدى الحكايات، حتى نعود إلى القصة الأصلية (حمزة وصفا)، لكن سرعان ما يقاطع أحد الشخصيات حديث حمزة ليستدل بقصة متداولة على الإنترنت (ترند)، وحين يكتشف أن حمزة لا يعلم عنها شيئًا، يبدأ في سردها عليه، ليعاد الأمر مجددًا.
وهكذا، يتحوّل المسلسل إلى تركيبة غير متماسكة: حكاية رئيسية نقضي معها وقتًا قليلًا، تتفرع إلى حكايات فرعية تستحوذ على المساحة الأكبر. وهنا تكمن المشكلة، إذ تقع هذه الحكايات الفرعية في فخ المبالغة، سواء على مستوى الأحداث أو الأداء، الذي يصل أحيانًا إلى حد الرداءة من جانب البطلين. باختصار، نحن أمام قصص مملة، لا تضحك، ولا تقدّم أي قيمة تُذكر.
خاتمة
باستثناء «النص» الذي يسعى جاهدًا لبناء دراما حقيقية يخرج من قالبها كوميديا لم توفق في البداية، لكن ربما يزداد وهجها مع توالي الحلقات، فتشترك أغلب الأعمال السابقة في أنها تبني الكوميديا خاصتها على المبالغات غير المنطقية والشخصيات الكرتونية شديدة التنميط في غرابتها، وكأن لا يوجد شخصية ذو أبعاد إنسانية طبيعية قادرة على خلق كوميديا قوية.
لكن الأسوأ والأكثر إحباطًا، أنك حتى لو تجاوزت عن كل ذلك، فلن تضحك في النهاية. ورغم أن «أشغال شاقة جدًا» استطاع تقديم بعض اللحظات الكوميدية، فإن الفضل في ذلك يعود لقدرات أحد أبطاله، لا لقوة الكتابة أو الإخراج. وهذا يسلط الضوء على ضعف النص، الذي يبدو شديد الهشاشة، وعلى الإخراج غير المبتكر، العاجز عن تصميم مشاهد كوميدية تستمد فكاهتها من تفاعلات الشخصيات والمواقف المصاغة بعناية لهذا الغرض.
يعتمد هذا الإهمال والكسل المفرط في كوميديا رمضان 2025 على افتراض أن المشاهد سيأكل من الصحن الموضوع أمامه، بغض النظر عن جودته. وهذا ليس سوى نتيجة طبيعية لغياب الفرص والمساحات الجديدة، وفرض قيود على الصناعة تحد من التنوع والإبداع، مما أدى إلى إنتاج أعمال متشابهة، بلا أي تجديد أو محاولة جادة لصنع شيء ذي قيمة فنية. يضاف إلى ذلك صناع تلك الأعمال الذين يرفضون أي نقد، محتمين بأبراجهم العاجية، غير مستعدين للاستماع إلى أي صوت خارج دائرة الاستفتاءات التي تمنحهم الجوائز والتكريمات. فعندما تتحول آليات الإنتاج إلى دوائر مغلقة لا تكترث بالمواهب أو بالمشاهد، حينها لا تستحي فتصنع ما تشاء، بكل رداءة ولا مبالاة.